قرآنا عجبا | 20 | الفاتحة

لا أذكر متى سمعت «الفاتحة» لأول مرة، ولكني بالتأكيد سمعتها من أمي. بعيون متسعة كنت أرقبها تصلي وهي تهمس بها. كنت صغيرا جدا وبرغم ذلك كنت أعرف أنها تتكلم مع الله.
هي سورة مباركةٌ قصيرة يُفْتتحُ القرآن بها.
ويمكن لها أن تفتح عينيك، تفتح قلبك، تفتح عقلك.
تفتحك نحو رؤية مختلفة للكون.
هي فتح كل يوم، فتح يساعدك في تحقيق فتحك الأكبر الذي هو خلاصك الفردي وخلاصك الجماعي. فتح يومي يتكرر 17 مرة كحد أدنى.
هي إذن سورة عظيمة القدرِ.. سماها النبي عليه الصلاة والسلام أساس القرآن، وسماها أم القرآن، وسماها فاتحة الكتاب، وسماها المغاربة سورة الحمدُ (مع ضم الدال دائما). فأول ما يسألك الكبار في صغرك: هل حفظت سورة الحمدُ؟
يستهلُّ القرآنُ بها، وتُستَفتَحُ الصلاة بها، وتفتح مغاليقُ كلِّ أمرٍ بها، وتتنوَّرُ الظلمات بها لأنها منبعِ نوراني عظيم.
فهي تُسمى “الفاتحة” لأنها رأس الأمر وأساسُه، وتُدعى “الشافية” لأنها شفاء لكلِّ الأمراض، و”الكافية” لأنها وصفة كافية لحلِّ كلِّ المشاكل والهموم، و”أم الكتاب” باعتبارها خلاصةً أزليَّةً لحقائق القرآن.
تبدأ الفاتحة بتعليمنا أن بداية البداية يجب أن تكون بسم الله لا بسم غيره، فهو الرحمن الرحيم؛ لأنه برحمته ورحمانيته بعث فينا محمدا صلى الله عليه وسلم وأنزل القرآن.
ثم تعرفنا أن الحمد إنما هو لله، ولماذا الحمد “خاصّ” بالله؟ لأنه “ربُّ العالمين” ولأنه “الرحمن الرحيم”.
ثم تأتي “ملك يوم الدين”، فيستيقظ في القلب الإحساس بالرجاء، وكأنَّه يقول: انظر إلى “الرحمن الرحيم” قبل أن تنتَقِلَ إلى “ملك يوم الدين”، واملأ قلبَك بنسائمِ الرحمة.
و”يومُ الدين” هو يوم الجزاء والحساب. اليوم الذي سيتجلى الله فيه برحمته وقهره، وسيعاقَب فيه الظالمُ ويكافَأ فيه المظلوم، فهو ليس رحمانا رحيما فقط بل هو عادل أيضا، وعدله يتحقق يوم الدين.
وصفه الله بـ”يوم” لأن عمر الإنسان “يوم”، وأعمار المجتمعات “يوم”، وعمر الدنيا “يوم” وثـمَّةَ يوم آخَر يُقابِلُ الدنيا بأكملِها وهو: “اليوم الآخِر”؛ فالدنيا يوم والآخرة يوم؛ الدنيا والآخرة ليستا في جنب سلطنةِ الله العظيمة إلا عبارة عن يومين اثنين..
أجمل بشرى تحملها لك سورة الفاتحة، أن الله وحده “ملك يوم الدين”، وتلك فرصتنا الوحيدة للنجاة. لا يرحم ضعفنا إلا من خلقنا. لذلك تسمع “الرحمن الرحيم” فى هذه السورة القصيرة مرتين، فهو سبحانه وتعالى يريد أن يطمئننا أن رحمته غالبة.
ثم ترشدنا الآية المقبلة أنه لا سبيل لبلوغ النهاية بنجاح إلا بعبادة الله وحده، ولا معين حقيقي إلا الله “إياك نعبد وإياك نستعين”، عبادتنا له واستعانتنا به ليست فضلا من عند أنفسنا، بل هي ثمرة اتباع هدايته كي لا نحيد عن الصراط المستقيم. وأول استعانة هي الدعاء أن “اهدنا الصراط المستقيم”. هذا الصراط الذي ينقسم الناس تجاهه إلى ثلاث فئات، ندعو الله أن يوفقنا إلى الأولى منها.
“صراط الذين أنعمت عليهم”: هؤلاء الذين اتبعوا الهدى.
“غير المغضوب عليهم”: هؤلاء الذين علموا الحق وتركوه عمدًا مع سبق الإصرار والترصد.
“ولا الضالين”: هؤلاء الذين أخطؤوا الطريق لكن من غير عمد.
تنتهى الفاتحة. وتنتهى الصلاة. تنظر أمى إلى كتفها الأيمن وتقول: “السلام عليكم ورحمة الله” ثم تنظر إلى كتفها الأيسر وتقول “السلام عليكم ورحمة الله”. تلمحني فتبتسم، فأهجم عليها لأنعم بالضم والتقبيل.
رحلت أمي رحمها الله والأم هي أحد تجليات الرحمة الإلهية على هذه الأرض. فنسأل الله أن يبلغ أمهاتنا وآباءنا ثواب ونور وبركات سورة الحمدُ.