المعرفة التاريخية في نظرية المنهاج النبوي للإمام عبد السلام ياسين

إضاءات مفاهيمية ومنهجية
إن دراسة التاريخ على ضوء التصور المنهاجي يعد وقفة مصالحة مع التاريخ. فالمعرفة التاريخية ينبغي أن يعاد النظر إليها، بحيث توضح أهداف الأمة الإسلامية التي حدَّدها القرآن والسنَّة النبويَّة كرسالة حياة، وأداء أمانة أرادها الله تبارك وتعالى لهذه الأمة وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور، 55].
ماذا نقصد بمحورية القرآن؟
إن القصد من محورية القرآن جعل آياته المفتاح الذي به ومن خلاله نفهم مغاليق ما يعرفه العالم من تغيرات وتحولات وظواهر وأحداث، إن ذلك لا يعني جعل القرآن الكريم مصدر معرفة نظرية وحسب، بل هو في المقام الأول حث على السلوك الإيماني الفردي والجماعي.
ماذا نقصد بالمعرفة التاريخية؟
إذا كانت المعرفة التاريخية المادية تنبني على الصراع الطبقي وتؤكد على نهاية التاريخ بنهاية الفكر الرأسمالي، فإنها تنبني عند الإمام عبد السلام ياسين -رحمه الله- على حديث الخلافة الذي رسم فيه الرسول صلى الله عليه وسلم الدورة التاريخية للأمة الإسلامية؛ نبوة موصولة مباشرة بالوحي، تلتها خلافة راشدة وهي امتداد لحكم النبوة، ثم ملك عاض، ثم ملك جبري، ثم خلافة على منهاج النبوة.
ماذا نقصد بالمنهاج النبوي؟
يصف الأستاذ عبد السلام ياسين هذه النقلة من وضوح الطريق إلى عتمتها: “في برنامج المسلمين الفاتحين، كما عرضه الناطق باسمهم في بساط رستم إخراج الناس من جور الأديان إلى عدل الإسلام، كانت هناك خطة واضحة، كان هناك منهاج مبسط لكنه كان واضحا وعمليا وقابلا للتنفيذ ومنفذا بالفعل، لعل القدرة الفعلية على إنجازه كانت من أهم عوامل وضوحه (…) ثم ما لبثت تلك الطريق أن تعتمت، أول ما تعتم منها الحكم (…) ومن ذلك إلى التفتت التاريخي للمجتمع الإسلامي (…) فها نحن لا وضوح لدينا لذلك المنهاج ولصيغته البرنامجية” [1].
المبحث الأول: التصور المنهاحي وعلاقة الوحي بالمعرفة التاريخية
إذا كانت الدراسات التاريخية عند أصحاب الإيديولوجيات تقوم على المادية الجدلية، فإن الأستاذ عبد السلام ياسين يؤسس تصوره على النظر المنهاجي، على مكين الكتاب والسنة.
المنطلق الأول: كتاب الله وسنة رسوله / الوحي مصدرا للمعرفة التاريخية
1- إذا كان لكل تحليل تاريخي منطلقاته، سواء كانت معلنة أو غير معلنة من قبل أصحابها، فإنها تظل حاضرة دائماً على مستوى التصور والتحليل، مثال تصور ماركس وغست كونت. إن هذا التصور مهما كان الادعاء بدرجة صحته في تفسير الوقائع التاريخية، يظل قاصرا عن الإحاطة بجميع التفسيرات الممكنة لظاهرة التاريخ الإنساني لأنه يطرح جانبا الإخبار الغيبي من قبل الوحي الإلهي.
2- ما يميز الدراسة المنهاجية للتاريخ عند الإمام عبد السلام -رحمه الله- كونها لا تنطلق من رؤية ذاتية، بل تنطلق من الوحي الذي يتمتع بصفة الإطلاق والشمولية في تحديده الهدف من التاريخ، وبتوضيح سنن الصلاح والفساد، وبشرح النهاية والمآل والمصير.
3- إن الانطلاق من الوحي في تصور التاريخ ودراسته من منظور المنهاج النبوي تعطي الدارس قدرة أكبر على إدراك الحقيقة التاريخية بشرط تحقيق التوازن، سواء فيما يخص أدوات الفهم أو تناول الأحداث موضوع الفهم.
المنطلق الثاني: كتاب الكون وآلته العقل وسيلة للمعرفة التاريخية
1- تعتبر القراءة المنهاجية للتاريخ أسا محوريا، فتفتح عينيها معا في تناول الحدث، يقول الإمام ياسين: “لا تزيغ العين التي تقرأ ناموس الله في التاريخ بالعين التي تقرأ مواقع القدر الإلهي”.
2- بسبب خلل هذه العلاقة التكاملية بين القلب “آلة الوحي” والعقل “آلة الكون” في فهم التاريخ، زاغت أقوام وانحرفت مذاهب، وفقدت الفاعلية التاريخية في حياة الأمة وشاعت ذهنية القعود.
يقول الإمام ياسين: “ولا تكون النظرة إلا عوراء إن انغلقت العين المراقبة للكون وأسبابه، وانتصبت العين الإيمانية الغيبية تترجم وتفسر لا خبر عندها بالعلة والمعلول كما شاء الله تعالى أن تكون علاقتهما مفهومة عقلا مترابطة متساوقة” [2].
وحتى لا تكون “نظرة عوراء” تسعى القراءة المنهاجية أن تنظر إلى التاريخ بعينين مفتوحتين معا: القلب والعقل؛ “بقلب مطمئن نقبل تاريخنا لكن بعين فاحصة” [3].
المبحث الثاني: حديث الخلافة مفتاح المعرفة التاريخية
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكا عاضا فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكا جبريا فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت”.
إذا كان بعض علماء المسلمين اعتبروا حديث الخلافة مجرد إخبار بالمراحل التاريخية التي ستعيشها الأمة الإسلامية، فإن الأستاذ عبد السلام ياسين عده إنذارا من الرسول صلى الله عليه وسلم بوقوع كارثة تاريخية ستحول مجرى تاريخ المسلمين، كما عده بشارة بعودة الخلافة على منهاج النبوة.
أ- أثر الصدمة الأولى: سوء توظيف للوحي
1- إن انتقاض عروة الحكم في مرحلة الفتنة الكبرى وتولي الحكم بالسيف أثر على إرساء أسس الفقه الإسلامي مما جعل الفقهاء يتخذون مواقف متباينة، فتجزأ الفهم وتشتت العلم مزعا متخصصة لا يجمع بينها مشروع متكامل، كل ذلك بدافع سياسي، وبدافع الحفاظ على بيضة الإسلام. تم وضع أسس الفقه وتعاريف الكتاب والسنة من خلال قراءة أولى مظروفة بظرفها التاريخي.
2- سد باب الاجتهاد واصطبغ بصبغة الاضطرار في ما عدا العبادات الفردية.
3- انحبس الفقه وتقلص في حدود ضيقة لما وقع على العلماء ضغط الحاكم الذي يريد الناس على طاعة لا يخولها له الشرع.
4- وساد التقليد، ومن أهم مظاهره اتخاذ العلماء وسطاء بينهم وبين القرآن والسنة، بل منهم من احتفظوا فقط باجتهاد من سبقوهم، ساهين عن كون من سبقوهم كانوا يتفاعلون مع واقعهم بنيات معينة، فوضعوا اجتهادهم “مكان المطلق، وهو مكان لا يليق إلا للقرآن والسنة”.
وتدنت إرادة العلماء من إرادة الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر إلى إرادة الطاعم الكاسي، الذي ينظر من منظور البلاط إلى القرآن والسنة لا العكس.
ب- أثر الصدمة الثانية: التنطع والاستخفاف بالوحي
تحاشى علماء المسلمين فتح صفحات الفتنة الكبرى كلية، وقد رفعوا لذلك شعار “تلك أحداث طهر الله منها أيدينا فلنطهر منها ألسنتنا”.
وفي الجانب الآخر نجد من يثيرون تلك الأخبار لزعزعة المسلمين عن إسلامهم، يستشهدون بتاريخ المسلمين على تاريخية الإسلام ليقولوا إنه إيديولوجية عابرة. كما نجد من يستخف بالأئمة وما أثلوه من قواعد العلوم؛ يحترمون القرآن ويعرضون السنة على العصر وإجماعهم شبيه بالاستفتاء الشعبي أما القياس فلا يقيدون فيه الرأي.
وآخرون يزعمون خدمة القرآن يفسرونه تفسيرا عصريا، ويضعون المنهجيات لفحصه وترتيبه على مداخل العلوم الإنسانية، لذا تسمعهم يتحدثون عن القرآن بصفته كتاب حضارة وكتاب تاريخ وكتاب ثورة.
“نحن في ورطة تاريخية ومأزق، لم يسبق للأمة أن واجهت تحديات مثلما تواجه. إن لم تستوح من أعالي العلم، من مطلق الوحي، الفقه المناسب باجتهاد مناسب” [4].
خاتمة واستنتاجات
تعتبر دراسة تاريخ المسلمين على مشكاة المنهاج النبوي الذي يقوم على الإيمان بالله وكتُبه ورسُله واليوم الآخر والقدر خيرِه وشرِّه، وعلى دوافع السُّلوك في المجتمع النبوي والراشدي، “ضروري لتفسير التاريخ والواقع، ضروري لفتح النظرة المستقبلية، ضروري لرسم الخطة الإسلامية دعوة ودولة، تربية وتنظيما وزحفا، ضروري لمعرفة الروابط الشرعية بين أمل الأمة وجهادها، ضروري لمعرفة مقومات الأمة وهي تبحث عن وحدتها، ضروري لإحياء عوامل التوحيد والتجديد، ضروري لمعالجة مشاكل الأمة الحالية قصد إعادة البناء” [5].
ومن أهم استنتاجات البحث:
– ضرورة معرفة الخروم والانشقاقات الرئيسية التي طرأت على جسم الأمة.
– فحص الذات بغية معرفة الخذلان من أين جاءنا “أسبقية الاعتبار بنقائص الذات”.
– ضرورة فهم المرحلة المفصلية المتمثلة في الانكسار التاريخي الذي حدث بعد الفتنة الكبرى.
– ضرورة العلو على نتاجات التاريخ المظروفة بظرفها، والتتلمذ المباشر من الوحي الذي وضح المنهاج. “من تلك المرتفعات فقط يمكننا أن نبصر بوضوح وشمولية وانجماع في فكرنا وقلبنا وإيماننا وإرادتنا وحركتنا مواقع الأقدام على أرض واقع مفتون، ويمكننا أن نسير على المحجة البيضاء نكتشفها من جديد” [6].
[1] عبد السلام ياسين، الإسلام وتحدي الماركسية اللينينية، ط 1987/1، ص 5.
[2] عبد السلام ياسين، نظرات في الفقة والتاريخ، ط 2018/4، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ص 28.
[3] المصدر نفسه، ص 20.
[4] عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، ط 2018/4، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ج 2، ص 199.
[5] عبد السلام ياسين، نظرات في الفقة والتاريخ، م. س. ص 11.
[6] المصدر نفسه، ص 47.
ملخص مشاركة الباحثة في مؤتمر إستنبول حول محورية القرآن الكريم في الفكر المنهاجي