أدبي أم علمي؟

برقت عيناها وهي تحدثني عن عالمها الأخاذ، ذاك العالم الذي ينتشلك من واقعك وينقلك إلى حيوات أخرى غير تلك التي تعيش فيها..
أخبرتني عن رائحة الكتب الورقية، عن لمعان العينين وهي تلمح كتابا جديدا.. عن العناوين الساحرة وراء الواجهات الزجاجية في المكتبات.. وحتى على أرصفة الممرات.. وفي أسواق الكتب القديمة والمستعملة..
ذاك الشغف الذي تكلمت به وهي تحدثني، جعلني أعود إلى سنوات خلت.. رجعت بي ذاكرتي إلى سنوات التلمذة وأنا في مثل عمرها..
حملتني معها إلى عالم وردي حالم، افتقدناه مع أجيال اليوم..
ألفتها نادرة كلؤلؤة وسط أحجار زينة مزيفة..
جعلتني أتساءل.. أهي حقيقية؟ أم تراها حلما من أحلام اليقظة؟
رأيت نفسي فيها.. وجدت فيها توأمي المفقود..
حدثتني تلميذتي كيف كانت تنتزع منها والدتها قصص العربية انتزاعا، وتستبدلها بأخرى بالفرنسية.. وكيف كانت تخبرها أن العربية سوف تتعلمها لاحقا.. لكن الأولوية للفرنسية..
تروي لي استياء والديها من اهتمامها بقراءة الروايات والقصص العربية، وكيف يحثانها على الاهتمام بالرياضيات فهي الأهم..
أبرر لها فعلهما بأنه اهتمام بمصلحتها وما تقتضيه الحياة الدراسية ومتطلباتها..
أشرح لها وغصة في حلقي، تخفي إحساسي الفظيع بألم لا أستطيع تجاوزه..
تخبرني عن جمال حروف العربية المنسابة على ضفاف القلب، محملة بأمواج من المشاعر..
أشاهد فيها عاشقة ولهانة قل نظيرها في هذا الزمان..
يحدق فينا زملاؤها وزميلاتها باستنكار، وكأننا وصلنا توا من كوكب آخر.
أحاديثنا غير أحاديثهم، واهتماماتنا بآخر ما يوجد في المكتبات من عناوين تثير الدهشة والاستنكار في زمن “التيك توك” و”السناب شات”..
سفرنا عبر عوالم دوستوفسكي، وتسولتسوي، وتزيد فرحتي بمعرفتها لنجيب الكيلاني ومحمود تيمور وأحمد خالد توفيق…
نشعر بعزلة شعورية ونحن نرطن بأسماء وكلمات تنتمي إلى عالم آخر..
يحزنني شغفك بنيتي، وأقدر غربتك وأحس بها وسط محيط ينتزعك انتزاعا من اهتماماتك ويفرض عليك أخرى، لأن سوق الشغل والحياة يتطلب ذلك.. يتيه بك وسط الأرقام والمعادلات الصعبة التي ترينها فوق طاقتك مهما فعلت..
أذكرها وأنا أربت على جراحاتها أن معظم هؤلاء العظماء هم ذوو تخصصات علمية، ومع ذلك فقد خرجوا لنا بهذا الفكر العظيم والأدب البليغ..
أوصيها بدراستها خيرا، غير أني لا أصم صوت قلبها وعقلها عن حب ووله يتردد في أعماقها، كتبها وكتاباتها وإبداعاتها، لأنهم شخصيتها الحقيقية، وبذرة كيانها التي تنمو على مهل، صانعة شخصية حقيقية، واعية ومثقفة.
سايري عصرك دون إفراط..
تشبثي بحروفك، ودعي إبداعاتك تتدفق دونما كلل ولا ملل..
ما أعظم إنجازك، وأنت تنالين الحسنيين! علم وأدب..
ماذا أنت صانعة، وأنت تكابدين وسط خضم موار، ينبذ العلوم الإنسانية ويقصيها ويجعلها رتيبة مملة لا تخضع لتجديد..
يحطم دارسها، ويغزو أفكار الناشئة بإشاعات تهينها وتزدريها..
يقسم المتعلمين ويصنفهم حسب توجهاتهم؛ فيجعل العلميين في الطليعة، ويضع الأدبيين على الهامش في تصنيف مقيت كله انتقاص وإقصاء.
ماذا تفعلين وأنت ترين مجتمعك ومنظومة التعليم فيه، تهمش لغتك الأم وتزدريها، تدعم أفكارا وتشجعها، من شأنها تقويض أحلام الناشئة، وزرع الشك في قدراتهم واهتماماتهم، وأصولهم وهويتهم..
لا خوف عليك بنيتي.. تمسكي بما حباك الله به من مواهب.. واستمتعي بتميزك وسط أقرانك، فهو هبة ربانية ونفحة علوية، زادتك جمالا وانفرادا..
ولا يغرنك من غرد خارج سربك، حاولي مد جسور معرفتك مع عقولهم المحدودة دون تعال ولا تكبر، فلربما كنت سببا في انفتاق عقل وإحياء فكر وانطلاق نحو أفق جديد لانبعاث جيل، ربما ظلمناه وما تفهمناه.. نأينا عنه وما دنونا منه..