رؤيا عاتكة في بدر.. خبر الغيب وحنكة المخبر

في رمضان، أول رمضان فرض في الإسلام، في المدينة المنورة حيث تشم نفحات النصر والتأييد للمسلمين، نفحات غزوة بدر الكبرى، نسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: “هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها؛ لعل الله ينفلكموها”.
وقبل السابع عشر من رمضان موعد النصر، لعله الرابع عشر من رمضان، تستيقظ السيدة عاتكة كلها تتصبب عرقا وخوفا من هول ما رأت وكلها تصديق وتسليم لعظم وثقل الرسالة؛ رسالة الغيب، هذا الباب العظيم الذي هو من سنن الله الماضية في تأييده سبحانه لعباده الصالحين. أخرج الإمام مالك رحمه الله في الموطأ عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاة الغداة يقول: “هل رأى أحد منكم رؤيا؟” ويقول: “ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة”.
فتصديق الرؤيا من سمات الإحسان، وهي باب الغيب الذي بقي مفتوحا لوصلة الصالحين بربهم.
تستيقظ ولسان حالها يقول: أبشروا أصحاب محمد، أصحاب ابن أخي، فإن النصر حليفكم. اكتم الخبر أخي العباس فإن وقعه جلل على قومك. هكذا فسرت عاتكة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالة الغيب وتعاملت معها بحكمة، فقد أرسلت في طلب العباس عم النبي وعينه على المشركين، أخيها الشقيق، لتروي له رؤياها.
هذه هي الرؤيا كما جاءت في سيرة ابن هشام، قال ابن إسحاق: “فأخبرني من لا أتهم عن عكرمة عن ابن عباس، ويزيد ابن رومان، عن عروة بن الزبير، قالا: وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب، قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال، رؤيا أفزعتها. فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له: يا أخي، والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفزعتني، وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة، فاكتم عني ما أحدثك به فقال لها: وما رأيت؟ قالت: رأيت راكبا أقبل على بعير له، حتى وقف بالأبطح، ثم صرخ بأعلى صوته: ألا انفروا يا لغدر لمصارعكم في ثلاث، فأرى الناس اجتمعوا إليه، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه، فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة، ثم صرخ بمثلها: ألا انفروا يا لغدر لمصارعكم في ثلاث: ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس، فصرخ بمثلها. ثم أخذ صخرة فأرسلها. فأقبلت تهوي، حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت، فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار إلا دخلتها منها فلقة. قال العباس: والله إن هذه لرؤيا، وأنت فاكتميها، ولا تذكريها لأحد” [ص 608].
فقد فهم من إشارة الغيب أن النصر حليف المؤمنين، ويصدق هو أيضا ويأمرها بكتم الخبر من أجل “تكتيك” التعامل مع الرسالة، فالحالة فترة حرب، وهو عينها على المشركين، أي بلغة العصر ولغة السياسة: مخابرات على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان الرجل المناسب في المكان المناسب، أليس هو الذي أرسل للنبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الهجرة فقال له صلى الله عليه وسلم: “إن مقامك في مكة خير”.
خير الرؤيا، وخير الإخبار بها، لخير مبلغ لها للمشركين بتكتيك عجيب كما جاء في سيرة ابن هشام، فالعباس الذي وصى عاتكة أن تكتم الخبر وهو صاحبه الوحيد يصله من أبي جهل وكله غيض وغضب: “فقال لي أبو جهل: يا بني عبد المطلب، متى حدثت فيكم هذه النبية؟ قال: قلت: وما ذاك؟ قال: تلك الرؤيا التي رأت عاتكة؛ قال: فقلت: وما رأت؟ قال: يا بني عبد المطلب، أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم، قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال: انفروا في ثلاث، فسنتربص بكم هذه الثلاث، فإن يك حقا ما تقول فسيكون، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء، نكتب عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت في العرب. قال العباس: فوالله ما كان مني إليه كبير، إلا أني جحدت ذلك، وأنكرت أن تكون رأت شيئا. قال: ثم تفرقنا”. [ص: 609].
أي إيمان بالغيب هذا يا أبا جهل يجعلك تنتظر ثلاث ليال لتكذب أو تصدق الخبر، وأي رؤيا هذه يا عاتكة، وأي سر جاء الغيب ليحققه في نفوس المشركين، إنها فعلا بشائر الهزيمة النفسية التي دخلت كل بيت في مكة قبل بشائر بدر وهزيمتها، وخلخلت كل ما خطط له إبليس لتحريض المشركين، حقا هالهم أمر الرسالة فأجمع تأويلهم على أن الهزيمة حليفهم، وكان وقعها مخيفا في نفوسهم حتى إن أبا لهب وهو أيضا عم النبي صلى الله عليه وسلم تخلف عن المعركة بسبب هذه الرؤيا، وبعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة، وكان قد لاط له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه، أفلس بها، فاستأجره بها على أن يجزئ عنه، بعثه فخرج عنه، وتخلف أبو لهب. هكذا جاء في سيرة ابن هشام.
وتستيقظ عاتكة على صوت كأنه يقول: استيقظي فقد صدقت الرؤيا، استيقظوا آل مكة فالليالي الثلاث قد مرت، استيقظوا واستجيبوا لنداء الفطرة، صوت النذير العريان أبو ضمضم مبعوث أبا سفيان لطلب الغوث والنجدة.
فلم يستيقظوا لتلبية نداء الفطرة وتلبية نداء رب العالمين، فالجحود أعمى بصائرهم، هذا الجحود جعلهم يلبون نداء الحرب حيث الهزيمة تنتظرهم.
وتبقى رسالتك عاتكة بشرى لك على أنك كنت شاهدة في الميدان التأسيسي للأمة الإسلامية، وبشرى لنا بهذا التأييد الغيبي، فما يكون لنا إلا أن ننفض الغبار عن ذواتنا لنسجل حضورنا في الميدان، ونحقق نحن أيضا هذا الشهود على الناس كما بشرنا ربنا سبحانه وتعالى في سورة البقرة الآية 143: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً.