القرآن والعقل

جعل الله العقل شرطا للتكليف الشرعي، وميز به الإنسان عن الحيوان وغيره من المخلوقات، فإذا ابتلي بفقدان العقل أسقطت عنه التكاليف الشرعية ورفع عنه القلم. إلا أن كثرة الجدل بين خصوم الإسلام وأصدقائه والمؤمنين بالله حول مكانة العقل في الإسلام زاد حدة مع انفتاح المسلمين.
فما هو العقل وما دوره؟
هل التعارض بين العقل والنقل صحيح ووارد؟
وهل للعقل حدود يجب أن يقف عندها وألا يتجاوزها؟
تعريف العقل
العقل هو التميز الذي يتميز به الإنسان عن سائر الحيوان، ويقال لفلان قلب عقول ولسان سؤول؛ وقلب عقول: فهم وعقل الشيء يعقله عقلا فهمه.
قال ابن الأنباري: رجل عاقل وهو الجامع لأمره ورأيه.
وقيل العاقل الذي يحبس نفسه ويردها عن هواها.
وقيل أيضا العقل القلب.
وقال الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: “الحقيقة هي أن العقل عقلان. ما نسميه عقلا لغة وتعريفا للملكة المشتركة بين البشر ليس هو مسمى العقل في القرآن. العقل في القرآن فعل حاسة باطنة في الإنسان تسمى القلب. العقل تلق لحقائق الوحي بواسطة القلب” (1).
العقل والنقل
في هذا الصدد نجد الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله قد صنف العقل إلى ثلاثة: “أما العقل المتكبر فهو العقل الفلسفي الذي استمر في تخميناته فقدَّر ونظَّر وتقدم وأدبَر فأثبت وجود الخالق أو نفاه، وأثبت له سبحانه من عنده افتراء وظنا سيئا ما شاء من الصفات وسَلَبَ. وعاش هذا العقل الفلسفي في نسجه العنكبوتي يشيِّد منظومات ويقوض أخرى، ينتقد اللاحق ما قاله السابقُ، وينتقد نفسه وإفرازاته، ويتطور في صور «علم النفس» و«علم الاجتماع» و«علم التحليل النفسي» و«علم التاريخ» وسائر ما يسمى بالعلوم الإنسانية” (2).
إلا أنه مع التقدم المهول للعقلانية العلومية المصنعة أصبح العقل مشتغلا بالأمراض الاجتماعية البيئية الاقتصادية السياسية لا يجد لها حلا.
هذه العقلانية المتفرعنة بإنجازاتها تقول بلسان حالها أنا الله كما قال فرعون (3). نفوس عميت عن تدبر آيات الله في الكون.
وهو ما أسماه الإمام المجدد رحمة الله عليه بالعقل السفيه الجبار؛ “العقل السفيه الجبار جمع بين خصلتين كفيلتين بتدمير الأرض وساكنيها، عقل الاختراع والصناعة والفاعلية والتنظيم. هذا العقل السفيه هو صنم العصر ومطلب أصدقاء الإسلام والناطقين من المؤمنين” (4).
في حين “لجأ العقل الراشد إلى شخص جاءه بحجة دامغة مقنعة أنه أقوى وأقدر وأعلم. هذا الشخص هو الرسول المؤيد بالمعجزة، المخبر عن الخالق، المجيب عن الأسئلة الوجودية، المنادي للإيمان. قال العقل الراشد منيبا إلى الله بعد أن أعياه فهم المبادئ والغايات: رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا (آل عمران، 193)” (5).
“العقل القرآني واقف على عتبة القلب، خادم مطيع، سامع لنداء المنادي للإيمان، تائب مستجير بربه عز وجل. نظر في الكون نظرتين فرجع خاسئا حسيرا كالاّ مهزوما لما هالهُ من عظمة الخلق الدالة على عظمة الخالق. قال الله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ (الملك، الآيات الأولى)” (6).
العقل الذي تحدث عنه القرآن وأشاد به وعدله واستعمله شاهدا موثوقا هو العقل الذي يتفكر في الخلق (7).
ويتمثل في قصة سيدنا إبراهيم الذي انطلق بالعقل إلى الله سبحانه وتعالى، فلما وصل إليه قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ” وذلك بعد إيمانه للوصول للحقيقة.
يقول الله سبحانه وتعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (آل عمران، 190 – 191).
طلب أولي الألباب العاقلين لربهم عز وجل أن يقيهم عذاب النار، جاء بعد مرحلة الاقتناع بأن لابد لكل صنعة من صانع (8).
“إذا آمن الإنسان بالله وأسلم وجهه إليه ووفّى بالشروط التحريرية أكرمه الله فأزال الغشاوة عن بصره القلبي، والوَقر عن أذنه التي تسمع الحق فتؤديه غير مشوب بطفيليات هوس العالم. وأكرمهُ سبحانه بالعقل القلبي الذي يتفكر في خلق الله، ويتدبر في حكمة الله، ويتعجب من حسن صنع الله، ويعقل عن الله. ويطيع الله بعد ذلك لا يطيع الهوى ولا يستزله الشيطان” (9).
(1) عبد السلام ياسين، محنة العقل المسلم، ط 2018/4، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ص 8.
(2) عبد السلام ياسين، الإحسان، ط 2018/2، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ج 2، ص 25.
(3) عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، ط 2018/4، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ج 1، ص 202.
(4) عبد السلام ياسين، الإحسان، م. س. ص 25.
(5) المصدر نفسه.
(6) المصدر نفسه.
(7) المصدر نفسه، ص 24.
(8) المصدر نفسه.
(9) عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، م. س. ج 1، ص 203 – 204.