نساء حول الرسول

الحمد لله الذي اصطفى من عباده لولايته، وكلأهم بعنايته، وأفاض عليهم من بحر جوده وكرامته. أشهد أن لا إله إلا هو سبحانه لا عدّ ولا حدّ لنعمته، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله ومبلغ رسالته، اللهم صل عليه وعلى آله وصحابته، وعلى من اهتدى بهديه واقتدى بسنته.
وبعد،
بعض النساء تودّ إحداهن لو رأت النبي صلى الله عليه وسلّم بالنفس والمال، وبعضهن أكرمهنّ الكريم – سبحانه – فكحّلن أعينهنّ بذاك الجمال، وبعضهن سبقت لهنّ من الله الحسنى فصحبن سيد أهل الكمال… لكن قلة منهنّ – وقلّة فقط – نلن من عظيم الجود ما يتعدى في الوصف كلّ الحدود، فكنّ أقرب إلى نور الوجود قربا تقشعرّ منه الجلود وتذرف له عيون المحبّين وتجود.
آمنة بنت وهب
وأول هؤلاء الفضليات السيدة آمنة بنت وهب؛ المرأة الطاهرة التي اصطفتها العناية الربّانية بدقّة متناهية لتكون وعاء ذلك الحمل المبارك، والتربة الطيبة التي ستستقبل بذرة النور الميمونة.
المرأة التي شهد لها مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعفاف والطهر فقال عليه الصلاة والسلام: “خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي لم يصبني من سفاح الجاهلية شيء” [1].
ستحمله هذه السيدة تسعة أشهر في بطنها، وسترى من أسراره وأنواره ما يبهرها. ولقد رأت حينما حملت به أو لحظة وضعه كأن نورا خرج منها فأضاءت منه قصور الشام.
حملته آمنة بين ذراعيها.. شمّـته.. وقبّلته.. وأرضعته.. وقضت معه أبهى أيام حياتها..
ثويبة مولاة أبي لهب
بعد السيدة آمنة تأتي السيدة ثويبة؛ تيك الأمة المملوكة لأبي لهب، والتي أكرمها الله عز وجلّ برضاعته صلى الله عليه وسلّم.
نعم كانت أياما معدودات.. ومصّات محسوبات.. ولكنها كانت خيرا من الدنيا وما فيها.
حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية
ثمّ جاءت السيدة حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية والتي أكملت رضاع النبي صلى الله عليه وسلم. ورأت من بشارات بركته ودلائل فضله ما جعلها تطلب من السيدة آمنة أن تتركه عندها حتى يشتد عوده، فعادت به إلى ديار بني سعد حتى إذا ما وقعت له حادثة شقّ الصدر خافت عليه فأعادته إلى أمه وهو ابن خمس سنين.
نعم.. خمس سنوات وهي تقلّب قمر بني هاشم بين يديها، وتلقمه ثدييها، وتضمّه إلى صدرها.. خمس سنوات وهي تنهل من بحر بركاته وتستضيء بفيض أنواره.
ولقد جاءته – رضي الله عنها – بالجِعرانة وهو يقسم غنائم حنين فبسط لها رداءه وأجلسها عليه، فتساءل أبو الطفيل – رضي الله عنه -: من تلك التي فرش لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه؟ قالوا: تلك أمه التي أرضعته.
حازت فضل رضاعته سيدة أخرى من بني سعد كانت مرضعة لعمّه حمزة – رضي الله عنه -. وذاك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
أم أيمن بركة بنت ثعلبة
حينما بلغ – صلى الله عليه وسلم – السادسة من عمره، سطع نجم السيدة بركة بنت ثعلبة وكنيتها أمّ أيمن، تلك الأمة الحبشية التي ورثها مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيه.
ماتت السيدة آمنة في طريق العودة من يثرب، وتركت بدر البدور – صلى الله عليه وسلّم – أمانة لدى أمتها بركة. فكانت – رضي الله عنها – نعم الحاضنة ونعم المواسية. وحاولت بصدق أن تعوّضه عن فقدان أمّه.
بل لقد لعبت حقّا دور الأمّ الحنون التي كانت تخاف عليه صلى الله عليه وسلّم فتأمره وتنهاه، حتى أنه لما كبر – و كان صلى الله عليه و سلّم دائما كبيرا – دخل عليها يوما فَنَاوَلَتْهُ إنَاءً فيه شَرَابٌ فإما صَادَفَتْهُ صَائِمًا، أَوْ لَمْ يُرِدْهُ، فَجَعَلَتْ تَصْخَبُ عليه وَتَذَمَّرُ عليه [2].
ما يزال الرجل العظيم – صلى الله عليه وسلم – طفلا في عينيها؛ عليه أن يأكل ويشرب ليكبر.
فاطمة بنت أسد
كان عمر النبي صلى الله عليه وسلم – حين ماتت أمّه – ستة أعوام، فسخرت له العناية الربانية جدّه عبد المطلب فضمّه إليه وأولاه العناية والاهتمام. لكن ما إن مضت سنتان حتى رحل الجدّ عبد المطلب إلى دار البقاء، فساقت له الألطاف الإلهية عمّه أبا طالب ليكفله.
فاستقبلته في البيت امرأة أخرى كتب الله لها شرف القرب منه – صلى الله عليه وسلم -. هذه المرأة العظيمة التي كان مولانا رسول الله – صلى الله عليه وسلّم – يُكنّ لها حبّا كبيرا واحتراما وتقديرا. المرأة التي لا يمكن له صلى الله عليه وسلم أن ينسى جميلها وإحسانها. إنها السيدة الفاضلة صاحبة القلب الطيب فاطمة بنت أسد – رضي الله عنها – التي قبلته في بيتها، وقاسمته طعام صغارها، وأفاضت عليه من حبّها وحنانها، وأعطته من دفئ الحضن ما كان يحتاجه طفل ذو ثماني سنوات.
عاملته كأم لا كزوج عمّ. ولذلك روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول عنها: “هي أمي بعد أمي” [3].
سيمكث النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها خمس عشرة سنة. من سن الثامنة إلى سنّ الخامسة والعشرين حينما سيتزوج أمنا خديجة رضي الله عنها. ما رأى منها شيئا يسوءه قط. بل يتذكر لها صلى الله عليه وسلم أنها كانت تؤثره ببعض الطعام على عيالها.
خديجة بنت خويلد
وحينما بلغ الخامسة والعشرين من عمره، ستظهر في حياته امرأة نالت من قربه وقلبه وحبّه ما لم تنله امرأة أخرى، إنها السيدة خديجة الكبرى؛ السيدة التي أحبّها النبي عليه الصلاة والسلام كأشدّ ما يحبّ رجل امرأة.. السيدة التي لم تحبس برازخ الموت ذكرها وذكراها عن قلب مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلّم… المرأة التي استفزّت بحضورها القوي حافظة أمنا عائشة – رضي الله عنها – حتى قالت: “ما غِرْتُ علَى أحَدٍ مِن نِسَاءِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ما غِرْتُ علَى خَدِيجَةَ، وما رَأَيْتُهَا، ولَكِنْ كانَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، ورُبَّما ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أعْضَاءً، ثُمَّ يَبْعَثُهَا في صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فَرُبَّما قُلتُ له: كَأنَّهُ لَمْ يَكُنْ في الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إلَّا خَدِيجَةُ، فيَقولُ: إنَّهَا كَانَتْ، وكَانَتْ، وكانَ لي منها ولَدٌ” [4].
وقالت: “كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذا ذكَرَ خَديجةَ أَثْنى عليها، فأحسَنَ الثناءَ، قالت: فغِرْتُ يومًا، فقُلْتُ: ما أكثرَ ما تذكُرُها حَمراءَ الشِّدْقِ، قد أبدَلَكَ اللهُ عزَّ وجلَّ بها خَيرًا منها، قال: ما أبدَلَني اللهُ عزَّ وجلَّ خَيرًا منها، قد آمَنَتْ بي إذ كفَرَ بي الناسُ، وصدَّقَتْني إذ كذَّبَني الناسُ، وواسَتْني بمالِها إذ حرَمَني الناسُ، ورزَقَني اللهُ عزَّ وجلَّ ولَدَها إذ حرَمَني أولادَ النِّساءِ” [5].
كانت أمنا خديجة – رضي الله عنها – قريبة من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قربا ما تأتى لغيرها. خدمت دعوة الله، وساندت رسول الله، وسعت جاهدة لاقتحام العقبة سلوكا إلى الله، فجاءتها البشرى في الحياة الدنيا. قال سيدنا جبريل – عليه السلام – لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: “يا رسولَ الله، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام، أو طعام، أو شراب، فإذا هي أتتْك فاقرأ عليها السلام من ربها، ومنِّي، وبشِّرْها ببيت في الجنة مِن قصب، لا صخبَ فيه ولا نصب” [6].
فاطمة الزهراء
ستلد السيدة خديجة – رضي الله عنها – لرسول الله صلى الله عليه وسلم كلّ أولاده ما عدا إبراهيم عليه السلام، وستنفرد الزهراء – عليها السلام – من بين أخواتها فتحظى بقرب من أبيها لم تبلغه أخواتها.. وتأملي معي يا أختاه هذه المشاهد وتملّي فيها:
ها هي ذي فاطمة – عليها السلام – جويريةً تميط الأذى عن أبيها وتزيل عن ظهره سلا الجزور الذي وضعه عليه عقبة بن أبي معيط أمام أنظار سادة قريش وصناديد كفارها…
ها هي ذي تغسل شعره بعدما عمد أحد السفهاء إلى نثر التراب على رأسه الشريف وهي تبكي، وهو صلى الله عليه وسلّم يضمها إلى صدره ويقول: “لا تبكي يا بنية فإن الله مانع أباك” [7]…
ها هي ذي تعالج جراحه بعدما عاد من الطائف وقد أغروا به صبيانهم وسفهاءهم…
ها هي ذي تحبس الدم المنبعث من وجنتيه الشريفتين بعدما دخلت حلقتان من حلق المغفر في وجهه يوم أحد…
ها هي ذي تستقبله عند الباب حينما يدخل عليها فتقبله وتأخذ بيده وتجلسه في مجلسها…
وها هي ذي تدخل عليه – صلى الله عليه وسلم – فيقبلها ويأخذ بيدها ويجلسها في مجلسه…
ها هي ذي لا يسوغ لها طعام مميّز إلا إن كان – صلى الله عليه وسلم – جالسا على مائدتها…
ها هي ذي تدخل عليه في مرض موته والحزن يفتّت كبدها فيفرح – صلى الله عليه و سلم – بها ويقول: “مَرْحَبًا بابْنَتي” [8]، ثُمَّ يجلسها عن يَمِينِهِ، ويسرّ لها أن الأجل قد حان فتبكي، ثمّ يسرّ لها أنها أول أهله لحوقا به وأنها سيدة نساء الجنّة فتضحك.
وها هي ذي تبكيه بعد موته… دمعها ينهمر وكبدها ينشطر وقلبها يكاد ينفطر: “يا أبَتَاهُ، أجَابَ رَبًّا دَعَاهُ، يا أبَتَاهْ، مَن جَنَّةُ الفِرْدَوْسِ مَأْوَاهْ، يا أبَتَاهْ، إلى جِبْرِيلَ نَنْعَاهْ” [9].
وها هي ذي تقول لسيدنا أنس بعدما دفنوا رسول الله – صلى الله عليه وسلّم -: “يا أنَسُ، أطَابَتْ أنْفُسُكُمْ أنْ تَحْثُوا علَى رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ التُّرَابَ؟” [10]…
عائشة بنت أبي بكر الصدّيق
من النساء اللواتي أكرمهن الله تعالى بالقرب الجسدي والقلبي والروحي من رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك، أمنا عائشة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها.
تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهي بنت ست سنين، ودخل بها بنتَ تسع، بعدما رآها في رؤاه المباركة مرتين يجيء بها الملك في سرقة من حرير، ويقول له: هذه امرأتك.
إنها المرأة التي لمّا سئل رسول الله – صلى الله عليه وسلّم – عن أحبّ الناس إليه قال: عائشة.
إنها المرأة المباركة التي غارت منها ضرائرها – إذ كان الناس يتحرّون بهداياهم يومها – فشكون الأمر إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على لسان أم سلمة. فقال: “يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها” [11].
إنها السيدة التي قال عنها رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “وفَضْلُ عائِشَةَ علَى النِّساءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ علَى سائِرِ الطَّعامِ” [12].
إنها المرأة التي قال لها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوما: “يا عائشُ، هذا جبريل يُقرئك السلام”. فقالت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته [13].
إنها المرأة التي استبطأ – صلى الله عليه وسلّم – يومها في مرضه، فطلب من نسائه أن يمرّض عندها. ومات – عليه الصلاة والسلام – بين سحرها ونحرها.. بين حاقنتها وذاقنتها.. مَاتَ وَرَأْسه بَيْن حَنَكهَا وَصَدْرهَا.. وجمَعَ اللَّهُ بَيْنَ رِيقِها وَرِيقِهِ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِن الدُّنْيَا وَأَوَّلِ يَوْمٍ مِن الْآخِرَةِ [14].
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وحزبه.
[1] رواه الطبراني في الأوسط وابن عدي وغيرهما عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
[2] أخرجه مسلم عن سيدنا أنس بن مالك (2435).
[3] المعجم الكبير، الطبراني، (24/351)، رقم: 8 (71) والمعجم الأوسط، الطبراني، (1/152)، رقم: 1 (91) والحلية، أبو نعيم، (3/121)..
[4] أخرجه البخاري (3818)، ومسلم (2435)، والترمذي (2017) واللفظ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (8361)، وابن ماجه (1997)، وأحمد 24310)).
[5] أخرجه البخاري (3821)، ومسلم (2437) بنحوه مختصراً، وأحمد (24864) واللفظ له. عن أمنا عائشة رضي الله عنها.
[6] (إدام أو طعام أو شراب) هذا الشك من الراوي. صحيح البخاري 1 / 79، رقم: 3820. عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] سيرة ابن هشام (417/1).
[8] صحيح البخاري 3623. عن أمنا عائشة رضي الله عنها.
[9] صحيح البخاري (4462). عن أنس رضي الله عنه.
[10] صحيح البخاري (4462). عن أنس رضي الله عنه.
[11] صحيح البخاري 3775. عن عروة بن الزبير رضي الله عنه.
[12] صحيح البخاري 3769. ومسلم 2431.
[13] صحيح البخاري (6201). ومسلم (2447).
[14] صحيح البخاري 4451. عن أمنا عائشة رضي الله عنها.