بيعة النساء عهد ووفاء

خصص العالم للمرأة يوما يذكرها فيه بحقوقها ويبرز عطاءاتها في شتى المجالات ويسلط الضوء على إسهاماتها ويشيد بانفتاحها على العالم، ونود بالمناسبة أن نذكرها بمن كان لها قدم السبق في التحرر من كل ما يقيدها ويجذبها إلى سجن الدنيا ومعتقل الأهواء، وذلك بعد أن أعلنت خلع الإمارة عن النفس واختارت أن تعقد عقدا التزمت على إثره ببيع نفسها – بعد أن أحكمت وثاقها فملكتها – لسيدها جل وعلا لتكون الأمة المطيعة، إنها التجارة الرابحة، بيع مقابل الحرية.
لقد أصبحت حرة يوم دخلت مع الداخلين في دين الله أفواجا بعد فتح مكة وعلى جبل الصفا، الجبل الذي صعدته أمنا هاجر مرات بحثا عن الخلاص. تخلصت المؤمنات من قيود الرق في الأرض؛ فمددن أيديهن مجازا لرسول الله مبايعات ومدركات أن البيعة ليست مجرد كلام تلوكه الألسن ولا طقوس شكلية بل هي عهد في ذمتهن يجب الوفاء به، هي عقد سياسي بشروط دينية عقائدية إيمانية أخلاقية محققة للمقاصد العامة للشريعة الإسلامية، عقد سياسي بنوده ذات طابع اجتماعي حقوقي اقتصادي فكري. قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ۙ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (الممتحنة، آية 12).
جاء في مدارك التنزيل للنسفي في تفسير آية البيعة: “روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من بيعة الرجال أخذ في بيعة النساء وهو على الصفا، وعمر أسفل منه يبايعهن بأمره، ويبلغن عنه، فجاءت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنكرة خوفا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها لما صنعت بحمزة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا، فبايع عمر النساء على أن لا يشركن بالله شيئا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولا تسرقن، فقالت هند: إن أبا سفيان رجل شحيح فإن أنا أصبت من ماله فهنات، فقال أبو سفيان: وما أصبت فهو لك حلال. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها. فقال: وإنك لهند؟ قالت: نعم، فاعف عما سلف يا نبي الله، عفا الله عنك، فقال: ولا يزنين. فقالت: أو تزني الحرة؟ فقال: ولا تقتلن أولادهن، فقالت: ربيناهم صغارا، وقتلتموهم كبارا، فأنتم وهم أعلم، وكان ابنها حنضلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر، فضحك عمر رضي الله عنه حتى استلقى، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ولا ياتين ببهتان، فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، فقال: ولا يعصينك في معروف، فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك”.
هذه إذن شروط عقد البيعة، هي في حقيقتها ربانية شمولية خالدة أصيلة وثابتة، فقد أقرها الله تعالى؛ إذ الخطاب في الآية من الله إلى رسوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يمتد ذلك في كل العصور ويسع جميع الأمكنة، فهذه البيعة وإن كانت خاصة بزمان رسول الله، إلا أن معانيها عامة مستمرة في كل العهود.
بنود عقد البيعة
البند الأول
قوله: عَلَىٰ أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا أول بند من بنود العقد؛ يدعوهن إلى توحيد الله تعالى والإيمان به إلها خالقا وربا مطاعا، والتخلص من الشرك بكل مظاهره وتجلياته، متجهات إلى الله بالدعاء: “اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلم”، فالشرك أعظم الذنوب وأكبرها عند الله: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ (النساء، 48).
فهذا البند يقتضي حفظ الدين؛ رأس المقاصد الضرورية التي لا تستقيم حياة البشرية إلا به، فالسعادة الدنيوية مقتصرة عليه لأنه المحدد الأساس لسير الإنسان في هذه الحياة، والسبيل السوي الموصل إلى الفلاح في الدارين الدنيا والآخر،ة قال تعالى: أَفَمَن يَمْشِى مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِۦٓ أَهْدَىٰٓ أَمَّن يَمْشِى سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍۢ (الملك، 22). الاستقامة على دين الله أول باب تلجه الفارة إلى الله، إذ هو العاصم من التيه والضياع في دروب الأهواء، يحفظ كرامة الإنسان وعزته، وبه يستحق الإنسان الفوز بوسام الخلافة لله في الأرض التي تقتضي التعبد والإعمار والإصلاح.
البند الثاني
قوله صلى الله عليه وسلم: وَلَا يَسْرِقْنَ؛ فلما كان المال قوام الحياة وعمادها، وبه يقضي الإنسان مآربه وأغراضه، ولما كان حب المال مغروزا في فطرة الإنسان، فهو يعمل جاهدا على اكتسابه والاستكثار منه، إلا أن عقد البيعة حدد منهج التعامل مع هذه الغريزة وأحاطها بمجموعة من القيود تحول دون أكل أموال الناس بالباطل والتعدي عليها بكل أنواع التعدي؛ كالسرقة والغصب والغش والربا وكل ما يلحق الضرر بمال الغير، بل يتعدى هذا الأمر إلى وضع شروط تحدد طرق كسبه وإنفاقه، فالمال ليس إلا هبة إلهية أودعها الله في يد عباده على سبيل الوديعة، ومن ثم يلزم العبد التصرف فيه وفق ما اقتضاه واشترطه الله المالك الأصلي للمال.
البند الثالث
قوله صلى الله عليه وسلم: وَلَا يَزْنِينَ؛ تستنكر هند وهي آكلة كبد حمزة، بلغت بها الجرأة إلى أكل لحم البشر لكنها تستنكر أن تزني الحرة قائلة: “أو تزني الحرة؟” فالعرف السائد في المجتمع العربي أن الزنا فاحشة لا ترتكبها إلا تلك الأمة المغلوب على أمرها الخاضعة لأوامر سيدها. ومن ثم تكون كل من لجأت إلى الزنا في عداد الإماء اللواتي يملك الأسياد نواصيهن، الأسياد في عصرنا هم: الهوى والنفس والشيطان والإعلام والأفلام…
فالحفاظ على العرض من الأمور الأساسية في عقد بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمؤمنة الحقة تعمل جاهدة على عدم الاقتراب من الوسائل المفضية إلى هذه الفاحشة، قال تعالى: وَلَا تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰٓ (الإسراء، 32).
وقال عز وجل: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ (النور، 33).
البند الرابع
قوله صلى الله عليه وسلم: وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ؛ وهل تقتل الأم أولادها؟ فما المقصد من هذا الشرط وحب الولد مغروز في فطرة الأمهات، والأمومة مطلب كل أنثى يظهر في سن مبكرة من عمرها، هي الصغيرة الحاملة بين أحضانها لعبة تعتبرها طفلتها؛ تلاعبها، تمشط شعرها، تغير لها ملابسها، تحنو عليها، بل لا تستطيع النوم بدونها… إذا فالقتل هنا يتعدى كونه وضع حد للحياة إلى قتل معنوي حين ترضع الأم أطفالها لبنا علقما غير معقم، لبنا خاليا من معاني الإيمان بالله، غير مشبع بمحبته ومحبة دينه ورسوله، تهمل تربية أبنائها وتسجلهم في مدرسة الشارع للتعلم والتنشئة، تهتم بحاجاتهم المادية وتهمل حاجاتهم النفسية التي تقيهم نارا وقودها الناس والحجارة، تحسن تهييء مأكلهم ومشربهم وملبسهم ومكان نومهم محل نظر الناس، وتغفل عن تطهير أنفسهم وقلوبهم محل نظر الله تعالى، إنه الموت وسط الحياة، فمثل الذي يذكر الله والذي لا يذكر الله تعالى كمثل الحي والميت؛ ميت القلب، أعمى البصر، أصم السمع.
البند الخامس
قوله صلى الله عليه وسلم: وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ؛ فعموم اللفظ يقتضي شمول البهتان لكل معاني الكذب والافتراء والادعاء وقذف الأعراض، قال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا، إنه النهي عن مجالس السوء؛ حيث يكثر اللغو واللغط وزيف الكلام وأكل لحوم البشر وإفساد ذات البين.
البند السادس
آخر بند هو بمثابة الختم الذي يطبع كل عقد رضائي؛ بند شامل لكل البنود السابقة مجمل له: وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ؛ هي الطاعة التامة الدالة على صدق الإيمان: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (النساء، 65). هي الطاعة التامة الدالة على صدق المحبة: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ (آل عمران، 31). المحبة اتباع وطاعة ووفاء بعهد عقد بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعلى كل مؤمنة إن أرادت المراتب العالية في درجات الآخرة أن توثق اختيارها بتوبة تامة، تلزم نفسها بعدها بما التزمت به المسلمات الداخلات في الإسلام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بايعنه بيعة اختيارية حرة مشهودة؛ رافدها الاقتناع القلبي والحضور العقلي الذي يعرف قدر ما تتحمله المؤمنة من مسؤولية شاملة لحفظ مقاصد الشريعة.