دعاء الرابطة

خلق الله الإنسان وميزه بالعقل وكلفه بمهمة الاستخلاف في الأرض، وسخر له الكون لمنفعته ولتوفير الظروف الملائمة للعبادة وللعيش في أمن واطمئنان، وبعث الأنبياء والمرسلين مبشرين ومنذرين، وجعل الرابط بينه وبين عباده الدعاء والصلاة.
فما هي أهمية الدعاء؟
وهل هناك دعاء يجمعنا بمن سبقونا للدار الآخرة من الأنبياء والمرسلين والصالحين، وبمن نعاصر من الأهل والأصحاب والمسلمين أجمعين؟
الدعاء
لا يخفى على أحد أهمية الدعاء في حياة المسلم، فهو أساس ولب العبادة، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “الدعاء هو العبادة”. ثم قرأ: وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدْعُونِىٓ أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (رواه أحمد وأصحاب السنن وغيرهم). والأصل فيه التوجه والتضرع والافتقار لله تعالى. وينقسم إلى دعاء المسألة؛ أي الطلب والسؤال، ودعاء العبادة؛ الذي يشمل جميع القربات والطاعات بالقلب والجوارح واللسان. وأفضل الدعاء ما كان من القرآن، ثم من السنة، ثم نجتهد بعدها. ويبقى باب الدعاء مفتوحا، نكلمه تعالى ونناجيه ونشكو إليه ضعفنا وقلة حيلتنا وحاجتنا لمدده وعونه.
أما إجابة الدعاء فهي رهينة بقوته التي يستمدها من صدق الداعي وسلامة قلبه وإلحاحه في الطلب، ويقينه في الإجابة وعدم استعجالها، بالإضافة إلى تحري أوقات الإجابة؛ كالثلث الأخير من الليل وفي السجود وبين الأذان والإقامة ودعاء الصائم حتى يفطر وعند فطره، وغيرها من الأوقات الفاضلة، مع الالتزام بآداب الدعاء بالبدء بحمد الله والثناء عليه ثم الصلاة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ورفع اليدين والختام بالصلاة على سيدنا محمد وحمد الله تعالى، ففي الحديث النبوي الشريف: “إن الله حيي كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين” (رواه الترمذي وغيره وقال حسن غريب). وعن فضالة بن عبيد أنه “سمعَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ رجلًا يَدْعُو في صلاتِهِ فلمْ يُصَلِّ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فقال النبِيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: عَجِلَ هذا. ثُمَّ دعاهُ فقال لهُ أوْ لغيرِهِ: إذا صلَّى أحدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ اللهِ والثَّناءِ عليهِ، ثُمَّ لَيُصَلِّ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، ثُمَّ لَيَدْعُ بَعْدُ بِما شاءَ” (سنن الترمذي).
والدعاء مفتاح للخير والرزق والفرج، وبه نستمطر هداية وعطاء وكرم وتوفيق الله الكريم المعطي، فعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربِه عز وجل أنه قال: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أُطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليلِ والنهار ، وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إِنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجرِ قلب واحد منكم ما نقص من ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عِبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) (رواه مسلم).
دعاء الرابطة
قال تعالى: وَٱلَّذِينَ جَآءُو مِنۢ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلْإِيمَٰنِ وَلَا تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (الحشر، 10).
جاء في تفسير البغوي: قوله – عز وجل -: (والذين جاءوا من بعدهم) يعني التابعين، وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة، ثم ذكر أنهم يدعون لأنفسهم ولمن سبقهم بالإيمان والمغفرة، فقال: (يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا)؛ غشا وحسدا وبغضا (للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم).
من كان في قلبه غل على أحد من الصحابة ولم يترحم على جميعهم فإنه ليس ممن عناه الله بهذه الآية، لأن الله تعالى رتب المؤمنين على ثلاثة منازل: المهاجرين والأنصار والتابعين الموصوفين بما ذكر الله، فمن لم يكن من التابعين بهذه الصفة كان خارجا من أقسام المؤمنين، قال ابن أبي ليلى: الناس على ثلاثة منازل: الفقراء المهاجرون، والذين تبوءوا الدار والإيمان، والذين جاءوا من بعدهم، فاجتهد أن لا تكون خارجا من هذه المنازل.
انطلاقا من هذه الآية العظيمة يتضح لنا أهمية وفضل الدعاء لمن سبقونا بإيمان وإحسان إلى الدار الآخرة، هذا الدعاء الذي يربط بين القلوب والأرواح، يربط أهل السماء بأهل الأرض، والسابقين باللاحقين، والمسلمين بالمؤمنين وبالمحسنين. قال الأستاذ عبد السلام ياسين في المنهاج النبوي: “ما سماه الشيخ البنا رحمه الله ورد الرابطة إنما هو تجسيم وتطبيق عملي لعقد الأخوة بين المؤمنين. ونرى دعاء الرابطة ضروريا لربط المؤمنين في جماعة. فإذا سرى معنى الربط بتكرار المجالسة؛ وتكرار الوقوف بين يدي الله في الصلاة؛ والعمل المشترك؛ والدعاء الرابط؛ التقت الصحبة بالجماعة ولم تكن الجماعة شكلا ولا الصحبة صحبة انفرادية” (1).
دعاء الرابطة يشحذ الهمم ويسمو بالأرواح لتتشوف لأعلى المقامات وأرقى المنازل، منزلة القرب من الله تعالى، فبذكر الصالحين تتنزل الرحمات، وبذكر من سبقونا بالإيمان والإحسان من الأنبياء والمرسلين وأمهات المؤمنين وأهل البيت والصحابة والصحابيات والتابعين والتابعات ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، إلى يومنا هذا من المحسنين والربانيين، نزداد لهم حبا في الله، حبا ينفعنا عنده سبحانه، ونسعى للاقتداء بهم بالعمل والاجتهاد وطلب وجه الله تعالى، ونتسابق للحاق بموكبهم موكب الإيمان والجهاد والذكر والصدق، نستأذن للدخول مع هذا الموكب النوراني مفتقرين وطامعين في كرم المولى تعالى، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “لا تسأم من الوقوف على الباب ولو طردت .. ولا تقطع الاعتذار ولو رددت .. فإن فتح الباب للمقبولين .. فادخل دخول المتطفلين”، وطبعا لا ننسى الدعاء لوالدينا وأزواجنا وذرياتنا وأهلينا، ونخصص من نعرفهم ونعمم الدعاء لعامة المسلمين وللأمة بالتمكين والنصر والتأييد.
قال الأستاذ عبد السلام ياسين في كتاب “المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا”: “ينبغي لكل مؤمن – والأفضل وقت السحر عندما ينزل ربنا عز وجل إلى السماء الدنيا يدعونا هل من تائب وسائل – أن يفتح دعاءه الرابط بالفاتحة ثم يستغفر الله لذنبه، ويسأله لنفسه ووالديه وأهله وولده وذوي رحمه خير الدنيا والآخرة، ويصلي ويسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أنبياء الله ورسله، ثم على الخلفاء الراشدين والصحابة والأزواج والذرية. ثم على التابعين وصالحي الأمة وأئمتها. ثم يتلو رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلْإِيمَٰنِ وَلَا تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ. ثم على المؤمنين المجاهدين في عصرنا، ويعرض على الله حوبتنا ويستفتح للمجاهدين. ثم يخصص بالدعاء من يربطه بهم رباط الجهاد ويذكر الأسماء. ويتوجه في دعائه هذا لمستقبل الإسلام والخلافة والظهور على الأعداء”.
ختاما أقول إن الموفق المسدد هو من وفقه الله تعالى لطرق بابه ولزومه بالدعاء والعبادات والأعمال الصالحة، الموفق هو من أحب من ينفعه حبهم عند الله وعلى رأسهم الحبيب المصطفى عليه صلاة الله وسلامه، واقتدى بهم وسار على نهجهم ودربهم، وتهمّم بمصيره وبمكانته عند الله، ولم ينسَ الأمة والخلق وسعى لإصلاحهم وتذكيرهم بلقاء الله والاستعداد له بالعمل الصالح والإخلاص والقصد. فاللهم ارزقنا حبك وحب من ينفعنا حبه عندك، وافتح لنا الباب واجعلنا من الأحباب ومع الأحباب حتى نلقاك وأنت عنا راض.
(1) عبد السلام ياسين، يوم المؤمن وليلته، ص24-25، النسخة الإلكترونية.