آلام الفقد في حياة الحبيب محمّد ﷺ

يختلف ألم الفقد حسب حجم المحبّة التي يكنها الفاقد للمفقود.. وكلّما كان الحبّ صادقا كان الفراق حارقا. ولذلك فلن نستطيع تشبيه ألم فقد النبي صلى الله عليه وسلّم لأحبابه بأي ألم من آلام الفقد عند الناس. ذاك أن لا أحد يبلغه في صدق محبّته وصفاء قلبه.
ولقد فقد النبي صلى الله عليه وسلم أباه عبد الله وهو في بطن أمه، ثمّ فقد أمّه في طريق العودة من المدينة وهو أحوج ما يكون إليها، صبيا ابن ستّ سنين. ثم بعد عامين فقد جدّه الحنون عبد المطلب وهو الذي تكفلّ به وحاول تعويضه عن فقدان الأم والأب.
سيفقد عليه الصلاة والسلام -قبل بعثته- ابنه القاسم -أوّل أولاده من السيدة خديجة رضي الله عنها- وهو دون السنتين، ثمّ سيفقد بعد بعثته ابنه عبد الله -ويكنى الطيب والطاهر- وهو لم يكمل رضاعته أيضا.
وبعد خروجه من محنة الحصار الغاشم الذي ضربته قريش عليه وعلى آله وأتباعه ثلاث سنين متوالية، يفقد زوجه الغالية أمنا خديجة عليها الرضى والرضوان وقد كانت له سندا وحضنا، ثم يرحل بعدها أو قبلها بأيام عمّه أبو طالب وقد كان ناصرا وعونا.
وبعد انتقاله إلى المدينة -وما كاد يستقر- حتى توفيت ابنته السيدة رقية -رضي الله عنها- ولم يحضرها إذ كان في غزوة بدر.. فحال ألم فقدها -رضي الله عنها- دون فرحة النصر.
بعد ذلك بعام تعود قريش لتثأر لنفسها من هزيمة بدر، وبالفعل تمكنّت من ذلك لمّا أخطأت ثلّة من الرماة التقدير وزالوا عن مراكزهم، فأدى المسلمون الثمن غاليا وفقد النبي -صلى الله عليه وسلم- أخاه من الرضاعة وعمّه سيد الشهداء حمزة رضي الله عنه. ولقد مثّل المشركون بجثته -رضي الله عنه- بطريقة وحشية لم يُسبق لها مثيل، فكان ألم مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلّم مضاعفا.. وأدع سيدنا عبد الله بن مسعود يصف لنا هول هاته الفاجعة. قال: «ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم باكيًا قط أشد من بكائه على حمزة بن عبد المطلب. وضعه في القبلة، ثم وقف على جنازته وانتحب حتى نَشَع (شَهِقَ) من البكاء» [1].
في العام الرابع سترحل عن الدنيا أمّه وحاضنته وزوج عمّه أبي طالب السيدة فاطمة بنت أسد رضي الله عنها، تلك المرأة التي استقبلته في بيتها وهو طفل ذو ثماني سنين، وعاملته كأم لا كزوجة عمّ طيلة سبع عشرة سنة، والتي يشهد -عليه الصلاة والسلام- أنها كانت لتفضّله على أولادها وتُؤثره عليهم ببعض الطعام.
وفي جمادى الأول من العام الثامن للهجرة سيفقد النبي صلى الله عليه وسلّم حِبّه زيدا بن حارثة وابن عمّه جعفرا بن أبي طالب، ومعهما عبد الله بن رواحة رضي الله عنهم أجمعين في غزوة مؤتة. وأترك سيدنا أنسا رضي الله عنه يروي لنا كيف استقبل مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر موتهم: (نَعَى النبي صلى الله عليه وسلّم زَيْدًا، وجَعْفَرًا، وابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ، قَبْلَ أنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُهُمْ، فَقالَ أخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ، فَأُصِيبَ، ثُمَّ أخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أخَذَ ابنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، وعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ حتَّى أخَذَ سَيْفٌ مِن سُيُوفِ اللَّهِ حتَّى فَتَحَ اللَّهُ عليهم) [2].
آه.. آه.. وعيناه تذرفان. بأبي وأمي هو..
وفي العام نفسه سيصاب -عليه الصلاة والسلام- في ابنته الكبرى السيدة زينب -رضي الله عنها- فحضرها عليه الصلاة والسلام وعلّم النساء كيف يغسّلنها، فلما انتهين أعطاهن صلى الله عليه وسلّم حقوه فأشعرنها إياه. والحِقْوُ هو الإزار والشِّعار هو الثوب الذي يلامس الجسد.. جعل إزاره يلامس جسدها في رحلتها الأخيرة بين يدي اللقاء المرتقب.
وفي شعبان من العام التاسع الهجري سترحل عن الدنيا ابنته الثالثة السيدة أم كلثوم -رضي الله عنها- وأترك الكلمة لسيدنا أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: (شَهِدْنَا بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ عَلَى القَبْرِ، فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ، فَقَالَ: هَلْ فِيكُمْ مِنْ أَحَدٍ لَمْ يُقَارِفِ اللَّيْلَةَ؟ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَنَا. قَالَ: فَانْزِلْ فِي قَبْرِهَا. فَنَزَلَ فِي قَبْرِهَا فَقَبَرَهَا) [3].
جالس على القبر وعيناه تدمعان.. بأبي وأمي أنت يا رسول الله..
وفي العام العاشر الهجري سيفقد عليه الصلاة والسلام ابنه إبراهيم عليه السلام -وأمه مارية القبطية- وهو ابن ثمانية عشر شهرا. ولقد حزن عليه صلى الله عليه وسلم كثيرا. وأدع سيدنا أنسا بن مالك -وهو شاهد على العصر- يحدثنا عن أجواء هذا الفقد الأليم الذي حدث على مشارف موت النبي الرحيم: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم على ابنه إبراهيم -رضي الله عنه- وهو يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تذرفان. فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟! فقال: “يا ابن عوف إنها رحمة» ثم أتبعها بأخرى، فقال: «إن العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون”) [4].
لقد كانت حياته صلى الله عليه وسلّم مليئة بآلام الفقد. ولقد ذاق من كأس مرارته ألوانا.. فذاق ألم فقد الأب، وألم فقد الأم، وألم فقد الجدّ، وألم فقد الأولاد صغارا وألم فراقهم كبارا.
ذاق ألم فقد الزوج، وذاق ألم فقد الأعمام، وذاق ألم فقد الإخوة، ناهيك عن فقد الأصحاب والذي لم يكن يخلو منه عام.
فأين فقدنا من فقده؟ وأين ألمنا من ألمه؟ وأين صبرنا من صبره؟
صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وحزبه.
[1] رواه ابن شاذان، انظر مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله النجدي ص 255.
[2] رواه البخاري في صحيحه عن سيدنا أنس رضي الله عنه.
[3] رواه البخاري عن سيدنا أنس رضي الله عنه.
[4] رواه البخاري عن سيدنا أنس وهو عند مسلم أيضا.