في ذكرى الإمام رحمه الله تعالى

كان ذلك واحدا من المجالس التي حضرتها سنة 2001 مع الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى، وهو لقاء خاص بالدكاترة وطلبة السلك الثالث على المستوى الوطني، استغرق أكثر من عشر ساعات، لم نشعر فيه البتة بكلل ولا ملل، مر الوقت منسابا كأنه ساعة من نهار. كم كنا نرجو لو طال وامتدّ، فالزمن النفسي يمر كلمح البصر كلما وفرت له مقومات البهجة والارتياح والعكس صحيح تماما. قدمنا من كل حدب وصوب نسعى؛ من كل جامعات المملكة، تجاوز عددنا المائة، قلوب الحاضرين تهفو لرؤيته رأي العين ومجالسته جنبا لجنب. كان يوم سعد وبركة، يوما مشهودا، من غير شك سيظل مرقوما على ذاكرتي المنهكة، منقوشا في قلبي الصغير. اللقاء كان يختلف عن عشرات اللقاءات التي تشرفت بحضورها معه وتحت إشرافه. جلسنا بين يديه نرقب ونحملق ونستمتع باللحظة التي نحن فيها وشاهدون عليها .
وبينما نحن كذلك إذ دخل علينا بطلعته البهية وابتسامته اللطيفة المعهودة، حيث أقرأنا السلام ووزع علينا بالتساوي نظراته العطوفة. ولأن الوقت كان ظهرا فقد أقيمت الصلاة وصلى بنا الإمام أربع ركعات خفيفة. بعدها تحلقنا حوله كما كان الحواريون يلتفون حول ابن مريم، ومنا رجال لهم مكانتهم في العلم والدعوة والتربية، توسطهم الإمام وهو يسألهم بين وقت وآخر باهتمام بالغ لا يكاد يفلت أي لفظة لم يحسن سمعها وقد بدا عليه انشراح وارتياح أبويين.
كان اللقاء قد بدأ بعد الظهر واستمر إلى ما بعد أذان العشاء ولم ينفض إلا على وقع كلمات ختم تولاها هو بنفسه، فيها دعا الإخوة إلى الالتحام والتآخي والتعاضد والمحبة والصبر في زمن فشت فيه الفتن والمحن… كانت فرصة عرفنا رحمه الله تعالى ببعض رجالات الدعوة معنا وذلك بطريقته الخاصة: “هذا سيدي العلوي من يعرفه منكم؟” فنرفع أصابعنا كما لو كنا أطفالا أبرياء في حضرة مدرس مقتدر مهيب … وهكذا حتى تعرفنا على الدعاة الحاضرين رأي العين.
كم كانت فرحتنا عارمة وكل منا ينتظر دوره ليجلس بقربه لحظة ويأنس به برهة ويستمد من النظر في وجهه الأمل في الدعوة إلى الله والعمل لوجهه تعالى. وعلى التوالي كنا نعرف له بأنفسنا باعتبارنا طلبة كما نطلعه على أصولنا ومدننا، على تخصصاتنا ومشارعنا البحثية… في معرض هذا الطقس التعارفي سأل أحدنا عن تخصصه الدراسي فأخبره بأنه تخصص رياضيات فكانت مناسبة لتعليقه المداعب: “الذكاء الرياضي يساعد على اتخاذ القرار”، ابتسم ضاحكا رحمه الله والتفت إلى صاحبه الشيخ الوقور سيدي العلوي: “ترى هل نستطيع نحن الشيوخ أن ننال حظنا من هذا العلم وقد بلغنا من الكبر عتيا؟”.
لما حان دوري، ازداد قلبي خفقانا وارتجت مشاعري، مع أنها ليست المرة الأولى التي أجلس بجانبه، ولكنها ظلال هيبة البرهان والعرفان والبيان والسمت الحسن. قعدت عن يمينه، فسألني عن اسمي ونسبي، فأجبت باختصار وأنا أشفق عليه من فرط أسئلته، ما إن ذكرت له موطني وأصلي (وزان) حتى بادرني بسؤال ما زلت أردده في نفسي، وحيثما أتيحت لي فرصة زيارة العلامة الفقيه المقرئ سيدي المسؤول إلا وذكرني به مازحا: (واش أنت شريف ولا خديم؟)، حقيقة الأمر أنني لم أكن مستعدا لهذا السؤال التصنيفي المباغت، غير أنني أجبت على الفور وبتلقائية ودون تردد: “خديم آ سيدي”. شعرت وكأنه سحب مني اعترافا تربويا صوفيا، وتوقعت أيضا أن يرتب عن السؤال الأول سؤالا ثانيا، فكان أن قال لي: “هكداك” (يعني كذلك هو الأمر؟)، بل لم يتوقف عند هذا الحد واسترسل راجيا: “الله يجعلنا من خدام الشرفا”. صدقوني أنني فرحت مرتين؛ لكوني وفقت في الجواب أو الرد، والثانية كوني فزت بدعائه لي بأن يجعلني وإياه من خدام أهل الشرف الحقيقيين.
بعد فقرة التعارف تواصل اللقاء واستغرق من الوقت أكثر من ساعة، وكان له رحمه الله مع كل واحد منا طريفة، أو “نكتة” بحسب ما تتيحه أجوبتنا عن الأصل والاسم واللقب والقرية والمدينة… كل حين يعلق أو يدقق ويوجه أو يستدرك وينتقد ويقوم… وعبر ذلك تجلت لنا مكنونات الإمام النفيسة وخبرته العميقة…
وصلنا لفقرة تفسير القرآن العظيم، فطفق رحمه الله يفسر سورة الفرقان، خيل إلي أنه أحسن تفسير مباشر سمعته مذ أدركت شرف العلوم الشرعية واطلعت على بعض أبجدياتها؛ يتلو الآيات تلو الأخرى، يبرز اللطائف اللغوية والبيانية المتضمنة لينتقل لاستنباط المعاني والأحكام والعبر بأسلوب سلس واضح، ويربط بين معاني الآيات والواقع المعيش للمسلم وللوطن والأمة… هذه الفقرة كشفت عن التكوين البيداغوجي والمنهجي للإمام وعن تجربته المعروفة في مجال المناهج والبرامج التربوية، فقرة جعلتنا نحيا مع القرآن كما لم نحيه من قبل، فلأول مرة في حياتي أنعم وأتذوق تفسير سورة الفرقان؛ تفسيرا نورانيا يأخذ منك لبك ويرغبك في التدبر والتفكر. والحق أن ذلك كان كافيا لتقديري هذا الرجل واحترامه ومحبته والدعاء له، إنه أحد علمائنا الذين جمع الله فيهم ما تفرق في غيره.