في النصيحة المركزية.. ذة. بلموذن تبسط أسس المجتمع الإسلامي من خلال نموذج المدينة المنورة

دعت الأستاذة البتول بلموذن إلى استحضار “الصلة بين تفسير كتاب الله عز وجل وبين السيرة النبوية.. لكونها هي التطبيق العملي الحق والصدق”، بناء لمداخلتها الموسومة بـ”أسس المجتمع الإسلامي من خلال نموذج المدينة المنورة” على المداخلة الأولى التي تناول فيها الأستاذ محمد الريمي الآيات من 11 إلى 17 من سورة البلد بالتفسير والمدارسة، “فيجمل بنا أن نجول في تلك الأيام المباركات من خير القرون؛ قرن رسول الله ﷺ وصحابته الأكارم الذين كانوا خيرة الناس، بتقدير الله عز وجل وباطلاعه وباصطفائه وباختياره لهم، لكي نتيقن من كيفية تحقيق تلك الرسائل القرآنية السامية التي بثنا إياها رسول الله ﷺ من عند الله عز وجل على أرض الواقع”.
وذكرت، أثناء مداخلتها في مجلس النصيحة المركزي الذي افتتحت به جماعة العدل والإحسان ذكرى رحيل مرشدها الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى، أن المثال التطبيقي نستوحيه “من خلال ما عاشه الصحابة الكرام وعاشه الرسول الله ﷺ الذي ابتدأ حياته الدعوية فردا ثم انتقل إلى جماعة ثم إلى مجتمع ذي أركان وأسس هي من أرقى ما يمكن أن نتحدث عنه في تأسيس المجتمعات”.
فأسس بناء المجتمع العمراني الأخوي “نستقيها من الدعائم التي بنى عليها رسول الله ﷺ مجتمع الإسلام الأول في المدينة المنورة؛ بناء المسجد، والمؤاخاة بين المؤمنين، وكتابة الوثيقة أو المعاهدة مع خيبر”.
بالنسبة للأس الأول؛ بناء المسجد، الكل “يتفق على أهمية ومركزية المسجد في بناء إيمان الأفراد، وكذا في التربية الإيمانية للجماعة المؤمنة”، ذلك “أن أهم شأن في حياة الإنسان هو الصلاة، الصلاة موطنها الأساس في المساجد”، تقول المتحدثة، وتضيف أن رسول الله ﷺ بادر “إلى بناء المسجد ليكون جامعة للمؤمنين، وملتقى يلاقون فيه الله عز وجل، ويقفون بين أيديه خمس مرات في اليوم، فتتجدد تلك الوشيجة وتلك الرابطة الإيمانية الجامعة بين قلوبهم في كل يوم لمرات متعددة، تذكرهم بأنهم جميعا عباد لله عز وجل، واقفون بين يديه سبحانه وتعالى، لهم هم واحد هو هم المصير إلى الله تعالى، هم التطلع إلى ما عند الله عز وجل، هم المستقبل الأخروي الذي تبنيه هاته الصلاة”.
وبالإضافة إلى هم بناء الشخصية الإيمانية الفردية، يضطلع المسجد أيضا بوظيفة التعليم؛ فهو “مدرسة للتعلم والتعليم وتلقي أوامر هذا الدين، فهو جامعة للتفقه في دين الله عز وجل، كانت تحضره النساء إلى جانب الرجال، كانت تحضره المرأة بصبيتها، وكان الرسول ﷺ يحن ويخفف الصلاة لأجل تلك المرأة ولأجل صبيتها”، وهناك الكثير “من المواقف التي تتحدث عن هذا الأمر وعن حرص النساء وحرص الرسول ﷺ في أن يبلغهن خير المسجد”.
واسترسالا في إظهار وظائف المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت بلموذن إن “المسجد أيضا كان ملتقى لتلك القبائل المختلفة في المدينة المنورة، بحيث أن الأوس والخزرج كان بينهم في سابق العهد قبل الإسلام ما كان من النزاع، ولكن المسجد أذاب كل تلك الفوارق، فسرت روح الإيمان من قلب إلى قلب، ومن فئة إلى فئة، ومن قبيلة إلى قبيلة”. ومثلت لحكمة رسول الله بحدث بعثه ﷺ مصعبا بن عمير رضي الله عنه مع الصحابة الكرام بعد بيعة العقبة الأولى، كي يكون مقرئ المدينة؛ يجتمع الأوس والخزرج خلفه في الصلاة، وذلك في إطار التدرج ومراعاة نوازع النفوس والقلوب إذ كان يكره بعضهم أن يؤم به البعض الآخر، حتى تتشرب القلوب الإيمان بالله عز وجل فتذوب كل تلك الفوارق وتصبح الهوية الإسلامية هي الأساس للمجتمع المسلم، والإيمان بالله تعالى والانجماع عليه سبحانه”.
وكان المسجد “برلمانا للشورى؛ تتخذ فيه قرارات سياسية كبيرة”، وكان أيضا “مأوى لابن السبيل، وما يمثله من مظاهر التكافل الاجتماعي” الذي ساعد على انتقال الإيمان من “الأفراد إلى الجماعة المؤمنة، فتقوم على أس ثابت صلب متين، يتجلى في سائر العبادات الإسلامية”، ومنها أيضا الزكاة التي تمتن صلة العبد بربه، وتمتن علاقة المسلم بمحيطه الاجتماعي، هذا البعد الجماعي “ينبغي أن نلمسه في بناء المجتمع من خلال هاته الأركان وهاته العبادات”، إضافة إلى “الحج؛ المؤتمر السنوي الذي يجمع سائر المسلمين من شتى بقاع العالم في مكان وزمان محددين، لكي يجددوا العهد مع الله عز وجل”. و”الصوم، تلك العبادة التي تجمع كل هاته المعاني حسا ومعنى”.
وأشارت بلموذن إلى ضرورة العمل على استعادة المسجد لأدواره ووظائفه التي فقدت في عهدنا الحالي.
وانتقلت للحديث عن الدعامة الثانية التي بنى رسول الله ﷺ عليها المجتمع الإسلامي، وهي “دعامة المؤاخاة بين المؤمنين، فسيدنا رسول الله ﷺ بعدما هاجر إلى المدينة اجتمع بأصحابه الكرام في دار أنس بن مالك، وكانوا تسعون رجلا، فآخى بين المهاجرين والأنصار؛ يختار للأنصاري حديث العهد بالإسلام مهاجرا سبقه بالإيمان؛ فيتعاونان فيما بينهما على حمل هم الدعوة إلى الله عز وجل ويتآزران ويتناصحان”.
وفندت المتحدثة ما يتداوله البعض من كون المهاجرين “استفادوا استفادة مادية خالصة من هجرتهم إلى المدينة المنورة”، وأن الأنصار أعطوا كل شيء وضحوا بكل ما يملكون، موضحة أن “المهاجرين خرجوا من المدينة وقد تركوا أموالهم وتركوا ديارهم.. حتى أن هناك من الدور من باعها المشركون بعد هجرة أصحابها”، كما تروي السيرة النبوية عن مهاجر باع أبو سفيان بن حرب داره لابن جحش، فلما شكى ذلك لرسول الله ﷺ قال له: ألا يرضيك أن يبدلك الله عز وجل عنها دارا في الجنة؟ فقال: رضيت. وأرشدت من يريد فهم الصورة بتفصيل أن يعود إلى سورة الحشر، حيث وصف الله سبحانه وتعالى الذين هاجروا وتخلوا عن أموالهم وأنفسهم نصرة لله ورسوله ﷺ بـأُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، والأنصار الذين أحبوا من هاجر إليهم بـوَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ.
واستشهدت أيضا بـ”تلك القصة الرائعة الجميلة اللطيفة”، للصحابي الكريم من الأنصار لما أتى رسول الله ﷺ فلم يجد عند زوجاته رضي الله عنهن ما يطعمه، فأخذه الصحابي إلى بيته، فلما وجد أن زوجه لا تملك سوى قوت صبيانها، احتالا للضيف المهاجر كي يشبع مع أن أهل البيت في خصاصة. ووصفت الموذن الحادثة بالنموذج الرائع، الذي أنزل الله فيه سبحانه قرآنا يتلى، من نماذج الإيثار الذي تميز به الأنصار والذي كان نتيجة الإيمان بالله عز وجل، والرغبة في صحبة من هاجر وسبق إلى الإيمان. إضافة إلى مواقف أخرى اقترح فيها الأنصار على رسول الله ﷺ الديار والأموال والعدة والعتاد وعلى المهاجرين اقتسام الثمار. وهذا “الكرم من الأنصار قابلته عفة المهاجرين”، وهو ما “يدل على أهمية أن يبنى المجتمع الإسلامي على العمل والجد لا على التكفف بما في أيدي الناس”.
وفيما يخص الدعامة الثالثة؛ كتابة وثيقة كانت بمثابة معاهدة مع خيبر، أبرزت بلموذن أن “هذه الوثيقة، التي نظم بها الرسول ﷺ العلاقة مع غير المسلمين ممن لم يختر الدخول إلى هذا الدين وخاصة اليهود الذين كانوا يقطنون المدينة ويحيطون بها، مثلت شكلا راقيا من عقود المواطنة المتقدمة على زمانها شكلا ومضمونا من حيث البنود”، منوهة إلى أنها “تدل بالتأكيد على تأييد رباني لرسول الله ﷺ المبعوث رحمة للعالمين”، فديننا الحنيف يشمل ويستوعب الناس كافة ولكن على أساس مجموعة من الأمور مبينة في هذه الوثيقة، تقول المتكلمة، مع الإشارة إلى صعوبة عرضها احتراما لوقت المداخلة.
وبناء على ما سبق، أشادت بلموذن بكون “مجتمع العمران الأخوي كان بحمد الله عز وجل مجتمعا واقعيا حقيقيا، عاش الناس في ظلاله الأمن والأمان والسلم والسلام”، وأننا “نقرأ هذه السيرة المنورة العطرة ونحن على يقين بأن موعود الله عز وجل بالخلافة الثانية على منهاج النبوة سيعيد بإذن الله عز وجل مثل هذا المجتمع”، وأننا نقرأ سيرة رسول الله ﷺ “لكي نرى ونتذوق ونشتاق، ولكي نعمل ونسعى لتأسيس هذا المجتمع الكريم”.