في ظلال الآية الكريمة “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ”

يقول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [1]. يقول ابن عباس رضي الله عنه عن هذه الآية: (هي أجمع آية في كتاب الله عز وجل للخير والشر) [2]. ويقول سيد قطب في كتابه “في ظلال القرآن”: (لقد جاء هذا الكتاب – أي القرآن الكريم – لينشئ أمة وينظم مجتمعا، ثم لينشئ عالما ويقيم نظاما…
ومن ثم جاء بالمبادئ التي تكفل تماسك الجماعة والجماعات، واطمئنان الأفراد والأمم والشعوب، والثقة بالمعاملات والوعود والعهود.
جاء (بالعدل) الذي يكفل لكل فرد ولكل جماعة ولكل قوم قاعدة ثابتة للتعامل…
وإلى جوار “العدل” “الإحسان” .. يلطف من حدة العمل الصارم الجازم، ويدع الباب مفتوحا لمن يريد أن يتسامح في بعض حقه إيثارا لود القلوب، وشفاء لغل الصدور. ولمن يريد أن ينهض بما فوق العدل الواجب عليه ليداوي جرحا أو يكسب فضلا.
والإحسان أوسع مدلولا، فكل عمل طيب إحسان، والأمر بالإحسان يشمل كل عمل وكل تعامل، فيشمل محيط الحياة كلها في علاقات العبد بربه، وعلاقاته بأسرته، وعلاقاته بالجماعة، وعلاقاته بالبشرية جميعا.
ومن الإحسان (إيتاء ذي القربى) إنما يبرز الأمر به تعظيما لشأنه، وتوكيدا عليه”. انتهى كلامه رحمه الله تعالى [3].
آية كريمة هي أجمع آية كما قال عنها ابن عباس، أمر فيها الحق سبحانه بالعدل بمفهومه الواسع والإحسان بمجالاته الثلاث؛ أن نعبد الله عز وجل كأننا نراه فإن لم نكن نراه فإنه يرانا، الإحسان إلى الخلق جميعا، وإتقان العمل. وبعد العدل والإحسان أمر بإيتاء ذي القربى، أي صلة الرحم كما فسر ذلك ابن كثير. فما معنى صلة الرحم؟
معنى صلة الرحم: قَالَ ابْنُ الأَثير -رحمه الله-: هِيَ كِنَايَةٌ عَنِ الإحْسان إِلَى الأقْرَبينَ، مِنْ ذَوِي النَّسَب والأصْهار، والتَّعَطُّفِ عَلَيْهِمْ، والرِّفْقِ بِهِمْ، والرِّعايةِ لأحْوالِهم. وَكَذَلِكَ إنْ بَعُدُوا أَوْ أسَاءوا، وقَطْع الرَّحِم ضدُّ ذَلِكَ كلِّه [4].
وقال النووي -رحمه الله-: وأما صلة الرحم فهي الإحسان إلى الأقارب على حسب حال الواصل والموصول، فتارة تكون بالمال وتارة بالخدمة وتارة بالزيارة والسلام وغير ذلك [5].
يتبين من الآية الكريمة أهمية إيتاء ذي القربى، وأنها واجبة على كل مؤمن يتشوف إلى مقام الإحسان؛ أعلى مراتب الدين. لا شك أنها واجبة على الرجل والمرأة على حد سواء، إلا أن المرأة بما حباها الله به من عطف وحنان تعتبر اللبنة الأساس في جمع شمل الأسرة من جهة، وحفظ الودّ والصلة من جهة ثانية. (غَرسة المرحمة في قلب المؤمنة يعرف تغصينها وإزهارها وإثمارها مما تشع حولها، الأقرب فالأقرب، من أنواع البر والإحسان والألطاف والأرفاق) [6].
المحسنة منا تصل رحمها، وتحث زوجها على صلة رحمه إن قصر أو نسي، وتعينه على ذلك بفتح قلبها قبل بيتها لأقاربه، تعلمها لأطفالها وتحببها إليهم بفعلها وقَولِها، واضعة نصب عينها حديث نبيها: عن أبي هريرة قال: قال رسولُ اللَّه ﷺ: {إِنَّ اللَّه تَعَالى خَلَقَ الخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرَّحِمُ، فَقَالَتْ: هَذَا مقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ، قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى، قال: فذَلِكَ لَكِ} [7].
تصل ما أمر الله به أن يوصل واصلةً لا مكافئة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها} [8].
تصل من قطعها وتحسن إلى من أساء إليها راجية بذلك وجه الله عز وجل، تغض الطرف وتشع حنانا على المفتونين من أقاربها، فلا ترى لنفسها مزية عليهم، بل تلتمس العذر لهم، فتفوز بذلك بدعوتهم بحالها، معلمة إياهم أن الإسلام رحمة، تقرب المسافة بينها وبينهم، فقربها يفتح لها أبواب نصيحتهم وإرشادهم وتذكيرهم، مستعينة بالصدقة على المحتاج منهم، والهدية، وبقضاء حاجاتهم، وكف الأذى عنهم، والدعاء لهم، وكل الوسائل التي تعينها على الوصل وتجنبها القطيعة، لا تنتظر جزاء ولا شكورا، بل تنظر إلى ما أعد الله عز وجل من جزاء وفضل للواصلين، وما أعد من عقاب للقاطعين. يكفي أن تعلم أن من العقاب والعياذ بالله أن الله عز وجل لا يقبل عمل قاطع رحم، أخرج المنذري في الترغيب والترهيب بسند حسن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {إن أعمال بني آدم تعرض على الله تبارك وتعالى عشية كل خميس ليلة الجمعة فلا يقبل عمل قاطع رحم} [9].
نعوذ بالله عز وجل من كل حجب تمنعنا أن ننال حظنا منه سبحانه وتعالى، ونسأله سبحانه أن يوفقنا لصلة الأرحام وأن يعيننا على ذلك. اللهم صل على سيدنا محمد وآله وصحابته أجمعين، وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين.
[1] سورة النحل، الآية 90.
[2] تفسير ابن كثير، 2/277.
[3] في ظلال القرآن لسيد قطب، ص277.
[4] النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، 191/5.
[5] شرح النووي، 201/2.
[6] تنوير المومنات لعبد السلام ياسين، 2/56.
[7] أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] أخرجه البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
[9] المنذري في الترغيب والترهيب، قال الألباني: حسن.