سبق المفرِّدون

تصرّمت من العمر الأيام، ومضت السنون، والقلب لاه في غفلته، محجم عن طاعة ربه، أبعدُ ما يكون تمثلا لأمره. ما السبيل لإحياء مواته وتجلية ظلماته؟ ما السبيل إلى سير صحيح وسلوك واصل إلى رب العزة والجبروت؟ ما مبدأ المحجة إلى القلب السليم ووسطها ونهايتها؟ ما الطريق إلى الهمة العالية والحالة المرضية؟ وهل يكفي التهمم بالخلاص الفردي عن التهمم بأحوال الأمة المغلوبة على أمرها؟
مثل الحي والميت
أخرج البخاري رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت”. مهجورة مغرورة تلك التي تركت باب الكريم لا تقرعه، وباعدت جنابه لا تلزمه، والله عز وجل مع الذاكرين الله كثيرا والذاكرات، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: “أنا عند حسن ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منه، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة” [متفق عليه].
مفتونة من لم تسم بإرادتها إلى التماس مجالس الذكر والقرب والوصال، مجالس الرحمة والنور، رياض الجنة ومرتع الملائكة، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على حلْقة من أصحابه فقال: “ما أجلسكم؟” قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومَنَّ به علينا. قال: “آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟” قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: “أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة” [رواه الإمام مسلم].
إن القلوب لا شك تصدأ كما يصدأ الحديد، والإيمان يخلق كما يخلَق الثوب، ولا تجديد للإيمان ولا مصقلة للقلوب إلا بذكر الله عز وجل؛ تهليلا وتحميدا وتسبيحا وتكبيرا… وصلاة على النعمة المزجاة رسول الله الكريم صلى الله عليه وسلم الذي يحب الجوامع من الذكر. عن جويرية رضي الله عنها “أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ خَرَجَ مِن عِندِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ، وَهي في مَسْجِدِهَا، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى، وَهي جَالِسَةٌ، فَقالَ: ما زِلْتِ علَى الحَالِ الَّتي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟ قالَتْ: نَعَمْ، قالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: لقَدْ قُلتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لو وُزِنَتْ بما قُلْتِ مُنْذُ اليَومِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ” [رواه الإمام مسلم].
من أجل ذلك، كان الذكر أساسا مهما في التربية، ودواء للنفوس العليلة، وصقالا لرَيْن القلوب الكليلة، ولذة لأفئدة العارفين؛ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب [الرعد، 28].
سبق المفردون
بشر الله عز وجل الذاكرين الله كثيرا والذاكرات بالمغفرة والأجر العظيمين، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر على جبل جُمدان وهو في مسير حج أو جهاد ويقول: “هذا جُمدان، سبق المفرِِّدون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات” [رواه الإمام مسلم رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه]. خطاب عظيم يربط به المربي الحكيم جموع الصحابة المجاهدين ليلحقوا بموكب النور، موكب المستهترين بذكر الله تعالى.
ولئن كان للمؤمنين من أسوة ترجى فهي أولا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو – الحبيب نفسي فداه – سيد الذاكرين وسيد العارفين، كان صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحواله، ولا زال يوصي: “أكثروا ذكر الله حتى يقولوا مجنون” [أخرجه الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري]. ولا زال يعلم صحبه، ويعلم معهم إخوانه الذين آمنوا معه ولم يروه، الأذكار التي تغطي كل جوانب حياتهم ومختلف أحوالهم، قياما وقعودا وعلى جنوبهم، عند دخولهم وخروجهم، حين يمسون وحين يصبحون…حدّد فيها وأطلق، والله سبحانه لا يملُّ حتى نَمَلَّ، ويحب من عباده الإكثار: اذكروا الله ذكرا كثيرا [الأحزاب، 41]، بل وجعل الذكر أفضل الأعمال، فقال صلى الله عليه وسلم: “ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم، قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: ذكر الله” [رواه الإمام الترمذي].
آالذكر خير من ذلك كله؟
هل تفضل الأذكار في الخلوات والعدو جاحد متربص كاشف عن أنيابه، ونداء تبليغ دعوة الله ونشر رسالة الرحمة وحماية المستضعفين يعلو مستنهضا الهمم العاكفة الراكنة للقعود، المتعذرة بأحاديث فضل فيها المصطفى صلى الله عليه وسلم المفردون لا المنفردون؟
هل يغني ذكر الله في الخلوات والجلوات عن التهمم بأحوال الأمة المغلوبة على أمرها؟
من يكون إذن لأمة رسول الله صلى عليه وسلم؟ من يكون؟
هل تغني التربية الانعزالية والذكر المنفرد عن جمع شتات الأمة، وإحياء سنة الحبيب صلى الله عليه وسلم، والاندراج في سلك المجددين؟
كيف يفوق الذاكر المنعزل ذاك القائم الذي أفنى حياته نصرة لدين الله، وتوحيدا للأمة من شتات التمزق في الرأي والإرادة والعزيمة… وهو مع ذلك وقبله وبعده لله مستهتر بذكره؟
أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم خاطب بها الصحب الكرام رضي الله عنهم، وهم إذاك كلهم مجاهدون، لا يضنون بأنفسهم عن نفسه، ويبذلون النفس والمال بسخاء من يرجو الحسنى وزيادة، كانت حياتهم مجملها جهادا بكل معانيه وتجلياته، كان جهادهم يستغرق ليلهم ونهارهم، إلا لحظات يعافسون فيها الزوجات المجاهدات والأبناء الذين يرضعون لبان التقوى والجهاد، ومع ذلك يظنون بأنفسهم الظنون كما فعل حنظلة وأبو بكر رضي الله عنهما…
أراد لهم المصطفى صلى الله عليه وسلم الخيرين: أن يكونوا مفرّدين من أهل السبق ومجاهدين من أهل الفضل، لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۚ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [النساء، 95 – 96].
الذكر بلا جهاد عمل يفضله الجهاد مع الذكر، وما بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم المفردين إلا وهم في رحلة جهادية زادُها، مع الزاد المادي، ذكر الله عز وجل.
أفهام وأفهام
من الناس، وليس كل الناس، أصناف عضوا – بحسن ظن غالبا – على فهم خامد جامد هامد، لا يكاد يستنطق من النص إلا ظاهره دون ربط وثيق بالفهم العام الشمولي لشريعة السماء، المرتبطة بمقاصد وكليات وملابسات.
ومنهم فريق قبع في زوايا الخمول، مستغنيا بأوراده، مستقيلا عن هموم المسلمين، لا تكاد إرادته تتشوف إلا إلى الانعتاق الفردي.
ومنهم من غفل، وألهته الحياة الدنيا وزينتها عن إرادة الزلفى عند الله، عن إرادة وجهه الكريم.
ومنهم من ألهته الحركية عن موجة لا تكاد تلطم شاطئَه التربيةُ.
ومنهم من عقَّد العقيدة حتى أضحت عقدة على المؤمنين، فلا يكاد يقبلُ منك كلمة التوحيد الصافية النقية الفطرية إلا بعد امتحان عسير.
ومنهم ومنهم…
بل ومن المؤمنات من حركتها رغبة القرب، وأعظم بها من طلبة، ففرطت في المسؤوليات، وتركت البيت هملا والأبناء بلا اهتمام، فلا تكاد تغادر محرابها، ظنا منها أن الذكر هذه صورته الفضلى، وما فقهت أن الذكر يكون في كل الأحوال؛ قياما وقعودا وعلى الجنب، ما علمت أن كل العبادات لا تخلو أن تكون ذكرا أو معنى موصلا للهج بالذكر، وما أيقنت أنها في أجر عظيم مضاعف، فضلا من الله، ولسانها رطب بذكره سبحانه ويدها تحرك مغزلها، والمغزل رمز، أو تحسِّن من هيئة وليدها أو بيتها.
أين هؤلاء من الفهم الناصع والتوجيه الناصح؟
“مسألة عصرنا وما بعده هي أن يَقبل الغافلون عن ذكر الله المجادلون في الله، المفلسفون كلمة لا إله إلا الله، أنّ الذكر باللسان وبالقلب قربة عظمى، وأن يزكي الذاكرون ذكرهم بالجهاد والعمل الصالح. وبذلك يكون التجديد شاملا لمعاني الإيمان، وساحاته، وأقواله، وأفعاله، ومقدماته، ونتائجه، وسوابقه ولواحقه. لا إله إلا الله محمد رسول الله” [الإمام عبد السلام ياسين، الإحسان، 1/278]. والله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، صيغة أمرنا بالإكثار منها، فهيا بنا نؤمن ساعة…