خير نساء العالمين | فاطمة الزهراء (8).. الزواج المبارك

الحمد لله والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وعلى الآل والصحب ومن والاه.
يقول ربنا عز وجل: وَمَنْ يَّتَّقِ اِ۬للَّهَ يَجْعَل لَّهُۥ مَخْرَجاٗ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُۖ وَمَنْ يَّتَوَكَّلْ عَلَي اَ۬للَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُۥٓۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ بَٰلِغٌ اَمْرَهُۥۖ قَدْ جَعَلَ اَ۬للَّهُ لِكُلِّ شَےْءٖ قَدْراٗۖ [الطلاق: 2- 3]..
تتساءلين يا أخت الإسلام… كيف مرّ عرس السيدة فاطمة عليها السلام؟
تتساءلين كيف مرّ عرس بنت قائد الدولة الإسلامية سيد الأنام؟
ولعلك تتخيلينها كأميرة من أميرات الألف ليلة وليلة، في قصر من قصور الفخامة ليلة عرسها الميمون، وحولها الخدم والحشم والحرس والعسس في صفوف منتظمون، والأمراء والوزراء والمدراء والسياسيون، والأدباء والشعراء والخطباء وعمالقة الفنون… كلّ في فلكهم يسبحون.
لعلك تتصورينها وهي جالسة على عرش زفافها المبارك وقد زينتها الماشطة وألبستها أحلى فستان، وحلّتها بأساور الذهب وعقود الياقوت والمرجان، والتاج فوق رأسها وبيمناها الصولجان، وقد أتتها للتو من أقدم وأفخر محلات العطور مسك أذفر وعنبر وروح الريحان، وجاءتها من أمهر دور الأزياء فساتين وحلل وقمصان، فتلبس الحلّة بعد الحلّة تحت التصفيق والهتاف، والزغاريدُ على كلّ لسان، والموسيقيون يعزفون أعذب الألحان، والألعاب النارية تزركش السماء بأزهى الألوان…
ولعلك يا أخي تتساءل… ونتساءل معك؛ في أي جزر البذخ والترف، سيقضي شهر عسلهما العروسان؟
توهمات وتصورات وتخيلات وأحلام… لا شيء منها على الإطلاق كان.
تذكرون مشاهدينا الأعزاء؛ كيف أتى سيدنا علي رضي الله تعالى عنه خاطبا السيدة فاطمة عليها السلام، وليس معه من متاع الدنيا شيء يقدمه مهرا. فرضي منه مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرع جهاده وآلة حربه مقدم صداق وقَبِله ختنا وصهرا. فقلّة المال لا تنقص من قيمة الرجال، كما أن كثرة المال لا تجعل المرء في مصاف أهل الكمال، ولا تضمن له حسن المآل إلا أن ينفقه في سبيل ذي الجلال، وقصة قارون خير مثال.
كانت خطبة سيدنا علي للسيدة فاطمة عليها السلام قبل غزوة بدر، وبعد غزوة بدر سيتغير الحال، وسبحان مغير الأحوال.
بعد غزوة بدر سيغنم سيدنا عَليٌّ رضي الله عنه “شارِفًا”، وهيَ المُسِنَّةُ مِن النُّوقِ، وزاده مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن خُمُسِه شارٍفًا أخرى، وأي ضير في أن يعين أب الزوج زوج ابنته؟ أي ضير في أن يقدم يد العون لمن ارتضينا دينه وخلقه؟ وأي ضير في أن نطلق عادات الجاهلية وأعرافها النتنة.
وأصبح لسيدنا علي شارفانِ، سيدنا علي ابن الخمس وعشرين سنة كان لبيبا فطنا، فعوض أن يبيع الناقتين ثم ينفق مالهما على عرسه وعلى وليمته، فكر في شيء يضر عليه ربحا دائما، ففكر أن يجعل من الناقتين راحلتين للتجارة، ولذلك تواعد مع صَوَّاغ يهودي مِن بَني قَيْنُقاعَ على “أن يَرتَحِلَ مَعه، فَيأْتي بِإِذْخِرٍ، وهو نَبْتٌ طَيِّب الرَّائِحةِ، فيَبيعَه الصَّوَّاغينَ، ويسْتَعينَ بِه في وليمةِ عُرْسه، أي: يسْتَعين بِثَمَنِه عَلى شِراءِ طَعامِ العُرْسِ، فَبَينا هو يجْمَع لِشارِفيه مَتاعًا مِن “الأقْتابِ”، جَمْع قَتبٍ، وهو ما يوضَع عَلى ظَهْرِ البَعيرِ. “والغَرائِر”، أي: الأكْياس جَمْع غِرارة، بِكَسرِ الغَيْنِ، وهو ما يوضَعُ فيه الشَّيْءُ، رَجَع حينَ جَمَع ما جَمَع؛ فَإِذا شارِفاه قَدْ أُجِبَّت أسْنِمتُهما، أي: قُطِعَتْ. “وَبُقِرَتْ خَواصِرُهما”، أي: شُقَّتْ. فَلَم يمْلِك عَيْنيه، أي: فَلَم يستَطِع أن يمْنَعَ عَيْنيه عَن البُكاءِ، فَقالوا: فَعَلَه حَمْزةُ بنُ عَبدِ المُطَّلِب رضي الله عنه، وهو في هذا البَيْتِ في شَرْبٍ مِن الأنْصارِ، أي: جَماعةٍ يَشرَبونَ الخَمْرَ، وعِندَه قَيْنةٌ، أي: مُغَنِّية، وأصحابُه، فَقالَت في غِنائِها: ألَا يا حَمْزُ لِلشُّرُفِ “النَّواءِ”، جُمَع ناوية، وهيَ: النَّاقةُ السَّمينةُ، فَوَثَبَ حَمْزةُ -رضي الله عنه- إلى السَّيْفِ، فَأَجَبَّ، أي: قَطَعَ أسْنِمتَهما، وبَقَر، أي: شَقَّ خَواصِرَهما، وأخَذَ مِن أكْبادِهما، فَذَهَبَ عَليٌّ -رضي الله عنه- إلى رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، ما رَأيْت كاليَوْمِ قَطُّ، أي: ما رَأيْت أشَدَّ عَلى نَفْسي مِنه، عَدا حَمْزةُ عَلى ناقَتَيَّ، أي: اعْتَدى عليهما، فَدَعا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بِرِدائِه فارْتَدى، ثمَّ انْطَلَقَ يَمْشي، فأتى البيت الذي فيه حمزة -رضي الله عنه- ووجده في حالةِ سُكْرٍ لا يَعي ما يَقوله، ولا يُلام عَلى ما يَصْدُر منه، فَعادَ وتَرَكَه”. (1).
أرأيتم أي امتحان شديد هذا الذي مرّ منه سيدنا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-؛ شاب في الخامسة والعشرين من عمره؟
أرأيتم كيف يصنع الرجال على عين الله عز وجل؟
أرأيتم كيف يصهرون في بوتقة الابتلاء؛ ينقيهم ربهم سبحانه وتعالى ويربيهم حتى يصبحوا بما في يَدِ اللهِ أوثَقَ منهم بما في أيديهم؟
كان سيدنا علي كرم الله وجهه يعقد آمالا كبيرة على الناقتين، لكنهما ذهبتا في رمش العين.
بالله عليكم، يا أخي ويا أختي؛ لو حدث لخاطب مثل هذا في زماننا أما كنا قلنا له هذه علامة نحس، والعروس لا خير فيها، والخير في غيرها.
أما كنا همسنا له في أذنه وقلنا له: احمد الله أنك ما زلت في أول الطريق.. ارجع وغيّر العتبة، هذه لا تصلح لك، هذا فأل سوء، هذه بداية نحس، فنظلم بنات الناس، ونظلم الناس، ونجرح أسرة بأكملها، جرحا لا يندمل، ونكسرهم كسرا لا ينجبر.
أي إرث هذا الذي خلفته لنا العادات والتقاليد بعيدا عن سنة نبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مشاهدينا الأعزاء…
كان سيدنا علي يرى حلما في الناقتين، ويراهما مشروعا مستقبليا يدر عليه أرباحا؛ سيقيم بها عرسه، ثم تكون مصدرا للكسب على مدى الأيام، لكنه رأى حلمه يتبخر أمام ناظريه، بعدما عمد عمه خطأ لقتل ناقتيه… فسيدنا علي لما رأى كل ذلك أرخى العنان لعينيه وبكى، ليس حزنا على دنيا طلّقها وطلقته وقال لها غري غيري، لكن حزنا أن لا يجد ما يولم به لبنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فماذا يفعل ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: “لا بُدَّ للعروسِ من وليمةٍ” (2).
يا أخي ويا أختاه؛
إن الله إذا أحب عبدا كان سمعه وبصره ويده ورجله، كان له، إنه سبحانه وتعالى إذا أحبك سخر لك الدنيا؛ ما فيها ومن فيها. إذا أحبك سبحانه عز وجل جعل لك أحبابا في الله؛ إذا غبت عنهم افتقدوك، وإذا مرضت عادوك، وإذا مت شيعوك، وإذا احتجت ساعدوك، وإذا افتقرت أعانوك، وإذا أصبت واسوك… إخوة في الله هم كالجسد الواحد في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
وسخّر الله عز وجل لسيدنا علي إخوته في الله، قال سيدنا سعدٌ -رضي الله عنه-: “عندي كبشٌ، وجمعَ له رهطٌ من الأنصارِ أصوُعًا من ذرةٍ” (3).
ذبح الكبش وطبخ مع أصوع الذرة وأقيمت الوليمة وأكل الناس؛ رجالا ونساء وصغارا. يقول سيدنا جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: “حضرنا عرس علي بن أبي طالب وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأينا عرسا كان أحسن منه حسنا، هيأ لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم زبيبا وتمرا…” (4).
سيقول قائل من أبناء دنيانا ممن ذاق من ألوان المكسرات الشيء العجيب والغريب: مساكين هؤلاء الصحابة، فرحوا بالتمر والزبيب. سأقول لك يا أخي: نعم لبساطة عيشهم فرحوا بالتمر والزبيب، ولكنهم فرحوا أكثر وسعدوا أكثر لأن من هيّأه لهم هو الحبيب، وكل ما يأتي من يد الحبيب يحلو ويطيب.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وحزبه.
(1) القصة عند البخاري ومسلم عن سيدنا علي بن أبي طالب.
(2) السنن الكبرى، باب ما يقول إذا خطب امرأة (10016) كما رواه أحمد وغيرهما وهو حديث حسن. عن بريدة بن الحصيب.
(3) أخرجه النسائي في ((السنن الكبرى)) (10088)، والبزار (4471)، والطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (5947). عن بريدة بن الحصيب الأسلمي.
(4) أخرجه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (6441)، وابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (4/188) باختلاف يسير.. عن جابر بن عبد الله.