خير نساء العالمين | فاطمة الزهراء (7) .. أين درعك الحطمية؟
الحمد لله والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وعلى الآل والصحب ومن والاه.
يقول ربنا عز وجل: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الروم، 21).
مشاهدينا الكرام السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
“زوجنيها يا أبا الحسن، فإني أرصد من كرامتها ما لا يرصده أحد”، بهذه الكلمات ترجى أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه سيدنا عليا بن أبي طالب حينما خطب منه ابنته أم كلثوم عليها السلام، فاعتذر سيدنا علي بأنها صغيرة، وأنه قد وقف بناته على بني أخيه جعفر الطيار رضي الله عنه، لكنه حين سمع هذه الكلمات التي تتقاطر صدقا وحقا غيّر رأيه وزوجه.
فخرج أمير المؤمنين يكاد يطير من الفرح، وذهب عند المهاجرين الأولين في الروضة الشريفة، وكان هناك مجلسهم فقال لهم: رفئوني رفئوني، أي قولوا لي بالرفاء والبنين، هنئوني، قالوا: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: تزوجت أم كلثوم بنت علي، وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: كل نسب وسبب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي وصهري، وإنه قد كان لي برسول الله عليه السلام النسب والسبب، أي المحبة والموالاة والمتابعة، فأردت أن أجمع إليه الصهر، فهنأوه ورفأوه رضي الله عنهم.
ترجع بنا قصة الزواج هذه إلى عقد ونصف من الزمن حينما استتب الأمر لرسول الله ﷺ في المدينة، فأمر سيدنا زيدا بن حارثة رضي الله عنه أن يعود إلى مكة ويحضر له زوجه السيدة سودة بنت زمعة وابنتيه أم كلثوم وفاطمة عليهما السلام.
كانت فاطمة عليها السلام عند دخولها إلى المدينة في ربيعها التاسع عشر؛ زهرة زهراء، تشع نورا وبهاء، ويكفي أن تسمع أنها كانت أشبه الناس بأبيها جلسة ومشية وحديثا وسمتا لتعرف سمو أخلاقها، ويكفي أن تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يقول: “فاطمة بضعة مني”، أي قطعة مني، لترى بأم عين قلبك جمالها وبهاءها وكمالها وأنوارها، وهل قطعة من القمر إلا قمر؟
كان الصحابة رضوان الله عليهم سباقين لكل خير، وكان أسبقهم لكل مكرمة وأسرعهم لكل فضيلة؛ الصديق أبو بكر رضي الله عنه، يليه منافس قوي؛ الفاروق عمر رضي الله عنه، وكعادته سبق الصديق إلى مكرمة ما مثلها مكرمة، وإلى شرف لا يضاهيه أي شرف، وأي مكرمة أكرم من مصاهرة رسول الله ﷺ والزواج بأحب بناته إليه فاطمة عليها السلام؟ وأي شرف أعظم من أن يكون رسول الله ﷺ جد أولادك وأحفادك؟
ذهب سيدنا أبو بكر وخطب السيدة فاطمة عليها السلام من رسول الله ﷺ ، لكن الحبيب المصطفى ﷺ رده ردا جميلا، ثم أتى بعده الفاروق عمر فخطبها كذلك فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم بلطف ورأفة، وعلم الوزيران العظيمان والصاحبان الجليلان ألا نصيب لهما في فاطمة، وأن الله تعالى قد أرى أباها فيها أمرا، فقبلا رده بالرضى والتسليم لا بالسخط، لكن سيدنا عمر رضي الله عنه بقي حريصا على هذه المصاهرة التي لا ينمحي لها أثر ولا ينقطع لها خبر، فلما لم يتزوج السيدة فاطمة عليها السلام تزوج بعد ذلك بابنتها أم كلثوم عليها السلام، فبلغ المنى وحقق المرام، وصدق اللهَ فصدقه اللهُ.
لم يكن سيدنا علي قد دخل معهما غمار المنافسة، ولم يكن علم بما يحدث، بل لم يكن يرى نفسه أهلا لأي زواج. وبينما هو جالس مع مولاة له، والمولاة هي المرأة المملوكة تكون عند الرجل فيعتقها، إذا بها تقول له: هل علمت بأن فاطمة قد خُطبت من أبيها عليه السلام؟ قال سيدنا علي: لا، لا علم لي، قالت له: فإنها قد خطبت من أبيها، فلم يقل سيدنا علي أي شيء، قالت له: أفلا تذهب إلى رسول الله فتطلب منه أن يزوجك بها، فنظر إليها سيدنا علي باندهاش كبير، وهل عندي ما أتزوج به؟ فما زالت به تشجعه وترجيه.. حتى قام سيدنا علي وذهب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
دخل وسلم.. وجلس ولم يتكلم، فنظر إليه رسول الله ﷺ وقال له: ما بك يا علي؟ ألك حاجة؟ وسيدنا علي رضي الله عنه قد ألجم إجلالا لرسول الله ﷺ وهيبة، فلم يستطع الكلام، وعلم رسول الله ﷺ حال سيدنا علي فهون عليه الأمر وقال له: لعلك جئت تطلب فاطمة؟ وكأنما انتشل سيدنا علي من غرق.. فتكلم ونطق.. وقال: نعم يا رسول الله. فقال له مولانا رسول الله ﷺ: هل عندك شيء تستحلها به؟ أي هل عندك مقدم صداق؟ فقال سيدنا علي: والله ما معي شيء.
يا الله ! سيدنا علي؛ البطل المغوار، السيد بن السيد بن السيد؛ علي بن أبي طالب بن عبد المطلب، ليس عنده شيء يسير يقدمه مقدم صداق لزواجه. مثل هذا لا يقبل، خاطب مثل هذا يرد، ورسول الله ﷺ قد رد قبله رجلين من أعظم الرجال، بل لعله أتى بعدهما آخرون، يملكون المال.. فماذا يفعل رسول الله ﷺ؛ أيرد سيدنا علي أم يزوجه؟
يقول النبي صلى الله عليه وسلم لسيدنا علي: أين هي درع كنت سلّحتك إياها؟ أين هي الدرع التي كنت أعطيتك يوم كذا وكذا؟ في أغلب الروايات يقول له النبي ﷺ: أين دِرْعُكَ الحُطَمِيَّةُ؟ والدرع لباس يلبسه المقاتل والمحارب مكون من حلق الحديد فيحمي به نفسه من ضربات السيوف، والحطمية بمعنى أنها تتحطم عليها سيوف الأعداء، أو حطمية نسبة إلى القبيلة التي كانت تصنع هذه الدروع، وهي قبيلة حطمة بن محارب. فقال له سيدنا علي: والله إنها لحطمية ما قيمتها أربعة دراهم، هي عندي، قال له مولانا رسول الله ﷺ: فأرسلها إليها، فإني قد زوجتك إياها. فبعث بها سيدنا علي إليها، وكانت مهر السيدة فاطمة عليها السلام.
أيها الأحباب الكرام؛ ما كان عند سيدنا علي أي حظ وأي نصيب مع الرجلين العظيمين سيدنا أبي بكر وسيدنا عمر رضي الله عنهما، ولكن لو كانت الأمور تسير هكذا لما تزوج فقير ولا أكل مسكين ولا عاش مستضعف، لكن الأمر بيد الله سبحانه عز وجل يصرفه كيفما يشاء.
يا أخي؛ يا مخلوقا من عدم، يا محفوفا بالكرم، يا مغرقا في النعم، الكريم إذا بدأ أتم.
يا أخي؛ رزقك مقسوم، وقدره معلوم، والأمر فيه محسوم، والمدبر حي قيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم.
رحم الله الإمام الشافعي إذ قال:
اتق الله إن كنت غافلا *** تأتيك الأرزاق من حيث لا تدري
فكيف تخاف الفقر والله رازق *** فقد رزق الطير والحوت في البحر
ولو كان الرزق يأتي بقوة *** ما أكل العصفور شيئاً مع النسر
صلى الله وسلم وبارك على سيدنا وحبيبنا مولانا رسول الله وآله وصحبه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.