مسطرة ومؤسسات

لا يسعنا إلا أن نعترف بالحقيقة الوظيفية الفعالة للمسطرة الديموقراطية في ديارها، برغم كل الانتقادات الموجهة إلى الديموقراطية التطورية التي بدأت أنفاسها تخبو في المجتمعات “المتقدمة”. لامناص من الاعتراف بأنها الطريقة الأقل سوءاً في تسيير الشأن العام. فهل يمكننا استعارة وسائل المنهج الديموقراطي لتسيير شؤوننا؟ وهل نحن مخولون لفعل ذلك؟
(…)
في النظام الديموقراطي تفوض المسؤوليات الحكومية وتنظيم المؤسسات حسب معيار الكفاءة والنـزاهة التي يفترض أن يقيِّمها الناخبون الديموقراطيون. أما في النظام الإسلامي الذي علينا ابتكاره، فلابد أن يتحلى النساء والرجال الذين سيمارسون الحكم ويسيرون المؤسسات -فضلا عن الكفاءة والنـزاهة- بالفضائل التي تجعل المسلم مسلما حقا. ويبقى التصويت الشعبي دائما هو الحكم.
لقد سارت الأمور في أول حكومة (أستعمل الألفاظ المستحدثة مكرها) إسلامية عشر سنوات بإشراف الرسول صلى الله عليه وسلم وتدبيره. كانت الشورى تمارس في حياته صلى الله عليه وسلم وفي خلافة الأربعة الراشدين من بعده دون مراسيم، إذ أن الأمور العامة في مجتمع قبلي ذي اقتصاد قروي ورعوي لم تكن تتطلب التنظيم والقدرات التي تطالب بها الدولة في مجتمعاتنا الحديثة أو المرشحة للحداثة.
لكن بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الأربعة، سقطت الشؤون العامة في يد الحكم المطلق ليمتد عُمر الجبر إلى عصرنا هذا.
اليوم، تحاول الأنظمة المطلقة التي يمسك بأزمتها في بلدنا لائكيون تتفاوت درجات عداوتهم للإسلام أن ترتدي الأقنعة الديموقراطية. فتارة تُفَرَّخ أحزاب سياسية فورية، ذات شعبية معجزة سريعة الذوبان، وتارة يقسم الحزب الوحيد إلى تشكيلات صغرى توهم بوجود التعددية (عنوان الديموقراطية). وتارة أخرى تنظم انتخابات ينتج فيها التزوير والرشوة وجميع أنواع التلاعبات غرفا برلمانية مطبوخة سلفا. وللظهور بمظهر الديموقراطية، لا يتردد هذا النظام أو ذاك في تفصيل دساتير مقيسة يصوَّت لها بنسبة % 100، أو في “إعادة انتخاب” الرئيس بنسبة % 99,99 قبل أن ينتخب رئيسا مدى الحياة.
إننا، بدلا من هذه الديموقراطية المخرفة، هذه الواجهة المزينة التي تستر مزبلة عفنة، نطمح إلى تطبيق شورى حقيقية تعصمنا أصالتها وتقوى القائمين عليها من الغش، وتحمينا من التشوهات التي يمكن أن تحدثها مسطرة لم تحسن التكيف مع روحنا.
ولنعد إلى وسائل الديموقراطية نستعرض منها ما يمكن أن نستعيره دون المس بعقيدتنا:
لقد امتدحنا من قبل الصناديق وأحكامها مادامت تنطق بحقيقة الاقتراع العام وتمثل جزءا من عملية شفافة أمينة يسهر عليها حكم نزيه غير ذي مطمع.
ضرورة الدستور الذي يعبر بوضوح عن الشريعة ويفسرها.
لا يتعارض مبدأ فصل السلط الذي تعتبره الديموقراطية من أسسها مع أي من التعاليم الإسلامية.
للقضاء على الرشوة والزبونية والمحسوبية والصفقات السرية، يجب على السلطة الضامنة في الفترة الانتقالية وعلى السلطة الناتجة عن الشورى، أن يستندا إلى فعالية واستقامة جهاز قضائي مستقل ونزيه. فالرسول صلى الله عليه وسلم حين ينذر القاضي الفاسد بأشد العذاب يحذرنا من الشطط في استعمال السلطة حين يمارسه الجهاز القضائي بمنحه القاضي سلطة مطلقة. بل إننا لا نخطئ القول حين نعلن أن الجهاز القضائي الذي يسهل على الفساد اختراقه هو مقتل كل نظام…
حتى ندرك مدى وعورة الطريق، نذكر بأن فصل السلط لا يزال غاية تسعى الدولة الديموقراطية إليها.
حرية التعبير إحدى أهم المؤسسات الديموقراطية، فلا غنى عن صحافة حرة متعددة يديرها محترفون نزهاء يسعون إلى فضح الشر وإدانته، صحافة إسلامية متحررة من رقابة تردعها وتعزلها في ظل حكم الأنظمة اللائيكية، صحافة يجب أن تقوم بالمهمة التربوية والأخلاقية والروحية، إضافة إلى الوظيفة السياسية والإعلامية التي تضطلع بها كل صحافة ديموقراطية. فالتطور المذهل لوسائل الاتصال من أقمار اصطناعية وطرق معلوماتية يفتح الآفاق حتى يبلغ صوت الإسلام الآذان البعيدة وتعرض الحقيقة الوجودية للإنسان. إذ لابد من استعمال هذه الوسائل التقنية لتبليغ الرسالة الإسلامية إلى كل الأصقاع ولعرض النبإ العظيم نبإِ البعث بعد الموت ونبإِ الجنة والنار بأسلوب لبق.
لابد من ذلك لتكميل وتدعيم وتعميق حقوق الإنسان التي تمثل عقيدة الديموقراطيات الغربية (وسلاحها لتدمير الآخرين إن كان لهم تصور آخر للإنسان وحقوقه).
تدبر المسطرة الديموقراطية الحكمَ بواسطة الموازنات، فلكل سلطةٍ سلطةٌ مضادة تراقبها وتحاسبها. وفي الحكومة الإسلامية، يجب أن تمأسس آليات المراقبة كما هو الشأن في الديموقراطية المسطرية. لكن قبل تكليف شرطة آداب أو محكمة ما بردع الغش والمحسوبية، لابد أن يهتم المجتمع الإسلامي أولا بتربية الفرد ذكراً أو أنثى. لابد أن يربى كل واحد على تمييز المنكر من المعروف دون أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلةً يُنَفِّسُ بها المرء عن غيظه، أو ينتقم من خصومه. فالفوضى والفتنة أكبر منكر تَجب محاربته.
ضخمة هي التحديات التي ستواجهها الحكومة الإسلامية، هامة هي الدروس التي يمكن للحكومة الإسلامية أن تستخلصها من المسطرة الديموقراطية. فالسعي العلمي إلى التنمية وتعديل الاقتصاد ليتمكن من مباراة التنافسية العالمية، وتعليم شبيبة عاطلة وتكوينها ثم تشغيلها، كل ذلك يتطلب وجود حكومة منظمة لخدمة الشعب، وليس نظاما مستبدا يرخي للفساد العنان.