العلاقة بين مسؤولية المرأة المسلمة ومقاصد الشريعة (1) | المحافظة على الدين

1. العلاقة بين حافظية المرأة المسلمة ومقاصد الشريعة
إن تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه لا تعدو ثلاثة أقسام؛ أحدها: أن تكون ضرورية، والثاني: أن تكون حاجية، والثالث: أن تكون تحسينية. فأما الضرورية فمعناها أنها لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت الحياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين. وأما الحاجيات فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق، وهي إن فقدت لا تختل مصالح الحياة كما هو الشأن بالنسبة إلى الضروريات. وأما التحسينيات فمعناها الأخذ بما يليق من العادات وتجنب المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات، وهي لا تتوقف عليها حياة الناس الدينية والدنيوية، ولا ينال الناس بفقدها حرج كما في الحاجيات إلا أن الحياة بفقدها تصير مستقبحة.
والعلاقة بين هذه المصالح بمراتبها الثلاثة علاقة وثيقة، إذ أن الضروريات أصل للحاجيات والتحسينيات، والحاجيات خادمة للضروريات، أما التحسينيات فهي مكمل للضروريات والحاجيات. وهذا يعني أن اختلال الضروري يلزم عنه اختلال الحاجي والتحسيني، والعكس ليس بصحيح، لكن قد يلحق الضروري اختلال بوجه ما إذا وقع اختلال الحاجي والتحسيني بإطلاق.
“ومجموع الضروريات خمسة هي : حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل، فمصالح الخلق مبنية على المحافظة على هذه الأمور الخمسة التي نبهت إليها عدة آيات قرآنية ونصوص حديثية، وأجمع آية في هذا الباب قوله تعالى: يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله [الممتحنة، الآية 12].
“فقوله تعالى:أن لا يشركن بالله شيئا مشيرا إلى حفظ الدين، وأنه في مقدمة ما ينبغي حفظه، وذلك أن توحيد الله وعدم الإشراك به هو رأس الحفظ ومنبع سائر أشكال الحفظ.
وقوله:ولا يسرقن مشيرا إلى حفظ المال، لأنه هو الذي يتعرض للسرقة.
وقوله:ولا يزنين يعني حفظ النسل.
وقوله:ولا يقتلن أولادهن فيه حفظ النفس، ويدخل فيه حفظ العقل باعتباره جزءا من كيان الإنسان وليس مستقلا ولا منفصلا، وإنما خص بالذكر نظرا لأنه شرط لابد منه لحفظ الضروريات [1].
يظهر إذن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل شروط بيعة النساء تتلخص في حفظ الكليات الخمس، وبما أن الموضع الطبيعي والرئيسي للمرأة هو بيتها، فهي ستحقق شروط البيعة من داخله. قال تعالى:الرجال قوامون على النساء بما فضل الله به بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم، والصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله [الممتحنة، الآية 34].
إن أول ما تبين من وظيفة المرأة في الآية الكريمة أنها حافظة للغيب، كلمتان توحي إحداهما بمفهومها أن هناك ما يضيع إن لم تحفظه، وتوحي الثانية بأن هناك غيبا وحضورا.
الحفظ استمرار واستقرار، هما قطب السكون في الحياة الزوجية وحياة المجتمع؛ “والنساء بفطرتهن يحفظن استمرار الجنس البشري بما هن محضن للأجنة وحضن للتربية ومطعمات، وكاسيات ومدبرات لضروريات معاش الأسرة، هن محضن لأجسام الأنام والراعيات لحياتهم، والوصلة الفطرية بين أطراف البشرية والواسطة بين جيل وجيل” [2]. فهذه الوظائف وغيرها إذا عرفت المرأة خطورتها وأهميتها، وقامت بها على أحسن وجه حققت بذلك المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، ومن ثم حققت الغاية التعبدية والاستخلافية التي خلق من أجلها الإنسان.
فالمرأة الصالحة القانتة الحافظة مدرسة دينية وتعليمية واقتصادية، ومصدر لاستمرار النوع البشري.
– فهي حافظة للدين بما تقيمه في نفسها، وبما تعلمه لأبنائها.
– وهي حافظة للنفس بما تعتني بصحة الأسرة، وبما تحافظ على عرضها وعفتها وشرفها وكرامة زوجها.
– وهي حافظة للعقل بما تقرأ وتتعلم، وبما تتعهده للعقل الناشئ؛ تأمر بالحسن، وتزجر عن القبيح، وتلقن اللغة، وتعلم الأبناء وتنمي مداركهم.
– وهي حافظة للمال بما تدير الشؤون الاقتصادية للبيت، وبما تنفق بالعدل، وتساعد الزوج على الإنفاق بالعدل، آخذة بنظر الاعتبار طاقته في الإنفاق.
– وهي حافظة للنسل بما تنتجه من عناصر بشرية التي هي مصدر الحياة ومصدر الاستخلاف في الأرض.
2. المرأة والمحافظة على الدين
إن حفظ الدين في مقدمة ما ينبغي حفظه لأنه أعظم المقاصد ضرورة وأهمية، لأن السعادة الدنيوية والدينية مقتصرة عليه، ولأنه منهج إلهي للحياة البشرية، يتم تحقيقه في حياة البشر بجهد البشر أنفسهم، وحقيقة الدين تكمن في الإيمان بالله الإيمان الراسخ الذي ينبني عليه عمل صالح. ومهمة المرأة المسلمة المحافظة على هذا الدين عن طريق إقامة معالمه في نفسها ثم تعليمه والدعوة إليه، قال عليه الصلاة والسلام: “ألا كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على أهل بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم…” [صحيح مسلم].
المرأة المسلمة لها القسط الأكبر في المحافظة على الدين، إذ هي نواة الأسرة ومربية الأجيال، وكمالها الإنساني لا يتحقق إلا بتحقيق أعلى مقصد يجب حفظه، لأنه يترتب عليه حفظ فطرة الله ونشر رسالته وخدمة أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومهمتها إصلاح البيئة الأسرية لتهيئ الطفل منذ المراحل الأولى على العادات الحسنة والعلم النافع، فالمرأة مسؤولة على تربية أطفالها وتعليمهم أمور الدين حفظا له، قال صلى عليه وسلم: “ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه… “ [رواه مسلم]، فالمولود الجديد يولد مسلما كامل الاستعداد لتلقي العلم بالله والقبول بالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا ونبيا، خصوصا وأن الطفل في المراحل الأولى من حياته يكون أكثر قابلية للتشكل وتلقي معاني الإيمان، فدور الأم يبدأ في تربية أطفالها حين تغذيهم بحليبها، وتغذيهم بكلمة التوحيد وبكلام الله، وبالعواطف والمعاني الإيمانية الفطرية، فهي نقطة انطلاق الطفل وحجر الزاوية في تطور نموه، وهي بالنسبة له المعين الأول والقدوة الأولى.
فوظيفتها لا تكمن فقط في الإنجاب والإرضاع وتغذية الجسم فيكون غثاء هملا، ولكن وظيفتها الأهم هي تأهيله ليكون الرجل الصالح والمصلح في المجتمع، الرجل المجاهد المؤهل لحمل لواء كلمة التوحيد الذي لقنته إياها منذ الصبا، وإمداده بالقيم الروحية، وبث روح العمل فيه، ليكون له الدور الفعال في بناء مجتمع العمران الأخوي، وتحقيق الغاية العليا من وجوده وهو الاستخلاف في الأرض، فهذه امرأة عمران تنذر ما في بطنها لخدمة دين الله وتدعو إلى الخير، قال تعالى: إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم [آل عمران، الآية 35].
وأهم وسيلة تأثر في تربية الأولاد هي القدوة والمحاكاة والتقليد، لذا فواجب المرأة التربوي يفرض عليها أن تستنير بنور الوحي وتعمل عليه لتسير على بينة حيث تقطع ما بينها وبين الدنيا وتصل ما بينها وبين الله، تشارك مع أخواتها المؤمنات في المحافظة على الدين بانضمامهن في سلك الجهاد بمعناه العام الذي يشمل الجهاد بالنفس والمال والوقت والولد والجهد… وبهذا تكون قد وقت نفسها وأهلها من النار قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [التحريم، الآية 6].
فالوقاية من النار لا تكون يوم الحساب، وإنما تكون في الدنيا، عن طريق الاستقامة وتربية الأولاد على الاستقامة، وحفظ الأمانة التي أودعها الله بين يدي الوالدين، وبخاصة الأم، وهي المحافظة على فطرة الله التي فطر الناس عليها من الانحراف والاعوجاج، لأن الولد وإن كان من خلق الله وهو الهادي إلى سواء الصراط، إلا أنة من صنع وعمل الإنسان، يجعله الله سببا للهداية الإنسانية. فالمرأة لا تستحق اسم الأمومة إن أنجبت غثاء كغثاء السيل، أنجبت وأهملت بدون تنشئة وتربية ونصح، وحتى إن بلغت الكمال القلبي والإحساني، ووصلت الدرجات العليا من الإيمان والتقوى والجهاد، فإن عملها ينقطع بموتها إن لم تخلف وراءها ولدا صالحا يدعو لها، إن لم تنجب مجاهدين ومجاهدات يساهمون في صنع مستقبل أمتهم: “فالولد الصالح ذخر للأمة في الدنيا ولوالديه في الدنيا والآخرة” [3].
يقول الإمام الغزالي: “اعلم أن الطريق في رياضة الصبيان من أهم الأمور وأوكدها، والصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية من كل نفس وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبواه وكل معلم له ومؤدب”، شاركاه لأنهما كانا سببا في هدايته، ويجنيان ثوابا لا ينقطع بدعائه ودعاء من بعده من ذرية صالحة، يقول الإمام رحمه الله، “وإن عود الشر، وأهمل إهمال البهائم، شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي عليه” [4].
فمن واجب المرأة أن تبرأ من مسؤوليتها فتقوم بواجبها التربوي كاملا، ومن حق ولدها عليها أن تهيئه لصنع مستقبل أمته، وجعله عنصرا صالحا في محيطه بكل رحمة قلبية وحكمة عقلية، والأم الصالحة المصلحة القانتة حافظة لأعلى مقصد من مقاصد الشريعة وأولى الضروريات الخمس، وهي المحافظة على الدين.
[1] مدخل إلى مقاصد الشريعة لأحمد الريسوني، ص 58ـ59 بتصرف.
[2] تنوير المؤمنات للإمام عبد السلام ياسين، ج 2، ص 88.
[3] المصدر نفسه، ج2، ص 222.
[4] كتاب موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين للإمام الغزالي، ص 184.