من كتاب “تنوير المؤمنات” | قانون الغاب

(…) بمساعدة الثروات المنهوبة وبالنزاع عليها ارتفعت الصراعات بين الأوربيين إلى حكمة سياسية تسمى الديمقراطية وإلى حكمة تساكنية تسمى ميثاق الأمم المتحدة. ارتفعت الصراعات إلى الحكمة المستفادة من حربين عالميتين كان من وَقُودِهما المهم حشود العساكر من البلاد المستعمرة وكنوز الأرزاق والأقوات والموارد المعدنية من البلاد المستعمرة.
الديمقراطية المستفادة من دروس الحربين نظام حكم وسيادة وإنسانية وسلم اجتماعية وأمن واستقرار سياسي وازدهار اقتصادي في حقهم. وهي حين تُقذف إلينا لعبة ممتعة، وأكذوبة، ومضغُ كلام.
أكذوبة حين يوحون إلينا بأن الانسلاخ عن ديننا وشرعنا لننخرط في دين الديمقراطية اللاييكية شرط في انتشال أنفسنا من وهْدة التخلف والجهل والفقر والاضطراب والاستبداد. حيلة أخرى لنبقى أبناء مستهلكين للإديولوجيا الاستعمارية كما نحن مستهلكون للبضائع الاستعمارية.
تلاحظ أخت الإيمان أني تورَّكْتُ في هذا الفصل وسوَّدت حِبر الكتابة لإبراز خصائص الاستعمار. وكنت فعلت مثل ذلك في الفصل السابق لأبرز الفراغ الذاتي والمرض التقليدي الموروث عندنا. ذلك لكي تتجلى الصورة بمتناقضاتها وتقاطعاتها وخلافاتها وائتلافاتها.
وبسطت من خبر هذا وذاك للمؤمنات لأن دخولهن الضروري إلى ميدان المسؤولية عن مصير أمتهن لا طريق إليه إلا بعلم ما هي الأمور عليه.
وأبسط هنا مقالة لمصطفى صادق الرافعي رحمه الله يصف المستعمِر النموذجي في أشخاص إنجليز، والمستعمَر النموذجي في أشخاص مصريين.
كتب رحمه الله: «تأملتهم طويلا (أي ثلاثة من الإنجليز)، فإذا صرامة وشهامة، وسكينة ووداعة وحسن سمت وحلاوة هيئة. في جلسة رزينة موقرة، لا يشبهها في حِس النفس التي تعرف معاني القوة إلا وضع ثلاثة مدافع مُصَوّبة. (…)
«أرى المصري كالمقتنع بأنه محدود بمدينة أو قرية لا يعرف لنفسه مكانا في غيرهما. فهو من ثَمَّ لا يرحل ولا يغامر ولا تتقاذفه الدنيا. وأرى الإنجليزي كالمقتنع بأن كل مكان في العالم ينتظر الإنجليز…
«وخُيِّل إليَّ والله أن رجلا من هؤلاء الإنجليز الأقوياء المعتَدِّين بأنفسهم لا يهاجر من بلاده إلا ومعه نفسه واستقلاله وتاريخه وروح دولته وطبيعة أرضه. فهو مستيقن أن الله لا يرزقه أيَّ رزق كان على ما يتفق، بل رزقا إنجليزيا، أي فيه كفايتُهُ.
«ورأيت شيئا عجيبا بين طابع السلم على وجوه، وبين طابع الحرب على وجوه أخرى. ففي تلك معاني السهولة والملاينة والحرص على مادة الحياة. وفي هذه معنى العزم والمقاومة والحرص على مجد الحياة لا على مادتها.
«وتبينت أسلوبين من الأساليب الاجتماعية: أحدهما في فرد بَنَى أمره على أن أمة تحمله، فهو يعيش بأضعف ما فيه. والآخر في فرد قد وضع الأمر على أنه هو يحمل أمة، فلا يدع في نفسه قوة إلا ضاعفها.
«وعرفت وجهين من وجوه التربية السياسية: أحدهما بالطنطنة والتهويل والصراخ واستعارة غير ألفاظ الواقع للواقع، وتحميل الألفاظ غير ما تحمل. والآخر بالهدوء الذي يقهر الحوادث، والصبر الذي يغلب الزمن، والعقيدة التي تفرض أعمالها العظيمة على صاحبها وتجعل أعظم أجره أن يقوم بها.
«وميزت بين أثرين من آثار الأرض في أهلها: أحدهما في المصري السمْح الوادع والألوف الحَيِيِّ الذي هو كرم الطبيعة. والآخر في الإنجليزي العَسِر المغامر النَّفور الـمُلحِّ على الدنيا كأنه تطفّل الطبيعة…».
قلت: هل كان مصطفى معجبا بالمستعمر الإنجليزي أو خائفا أو منافقا؟ كلا وإنما كان يعطي كل ذي حق حقه لِئلا تبقى الأبصار كليلة عن إدراك الحقائق. يؤتي الحكمة من يشاء.
الإمام عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ج 1، ط 1996/1، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، ص 94 – 96.