فيمَا يَجب للنَّبِيّ ﷺ، وَمَا يَسْتَحِيل فِي حَقّه

من كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى ﷺ، للقاضي عياض، ج2، ص 83-84. الطبعة الثالثة: 1461هـ – 2001م.
القسم الثالث: فيمَا يَجب للنَّبِيّ ﷺ، وَمَا يَسْتَحِيل فِي حَقّه أَو يَجُوز عَلَيْه، وَمَا يَمْتَنِع أَو يَصِحّ مِن الأحْوَال البَشَرِيّة أن يضاف إليه
قال اللَّه تَعَالَى وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (سورة آل عمران، الآية 144).
وقال تعالى: مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ۖ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ۗ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (سورة المائدة، الآية 20).
وَقَال: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسواق (سورة الفرقان، الآية 20).
وَقَال تَعَالَى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ (سورة الكهف، الآية 110).
فَمُحَمَّد ﷺ وَسَائِر الْأَنْبِيَاء مِن البشر أرسلوا إلى البَشَر، وَلَوْلَا ذَلِك لَما أطَاق النَّاس مُقَاوَمَتَهُم، وَالقَبُول عَنْهُم، وَمُخَاطَبَتَهُم.
قَال اللَّه تَعَالَى: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا (سورة الأنعام، الآية 9)؛ أَي لَما كَان إلا في صُورَة البَشَر الذين يُمْكِنُكُم مُخَالَطَتُهُم؛ إذ لَا تُطِيقُون مُقَاوَمَة الملَك ومخاطبته وَرُؤيته إذَا كَان عَلَى صُورَتِه.
وَقَال تَعَالَى: قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولا (سورة الإسراء، الآية 95)؛ أَيْ لَا يُمْكِن فِي سُنَّة اللَّه إرْسَال المَلَك إلَّا لِمَن هُو من جِنْسِه، أَو من خصه الله تعالى واصطفاه وقواه عَلَى مُقَاوَمَتِه، كَالْأَنْبِيَاء والرسل.
فالأنبياء وَالرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام وَسَائِطُ بَيْن اللَّه تَعَالَى وبين خلقه يُبَلّغُونَهُم أوَامِرَه وَنَواهِيه، وَوَعْدَه وَوَعِيدَه، وَيُعَرِّفُونَهُم بِمَا لَم يَعْلَمُوه من أمره وخلقه، وَجَلالِه وَسُلْطَانِه، وَجَبَرُوتِه وَمَلَكُوتِه؛ فَظَوَاهِرُهُم وَأَجْسَادُهُم وَبِنْيَتُهُم مُتَّصفَة بِأَوْصَاف الْبَشَر؛ طَارِئ عَلَيْهَا مَا يَطْرَأ عَلَى البشر من الأعراض وَالْأسْقَام، وَالْمَوْت وَالفَنَاء، وَنُعُوت الإنْسَانِيّة، وَأرْوَاحُهُم وَبَواطِنُهُم مُتّصِفَة بِأَعْلَى من أَوْصَاف الْبَشَر، مُتَعَلّقَة بِالْمَلإ الْأَعْلَى، مُتَشَبِّهَة بِصِفَات الْمَلَائِكَة، سَلِيمَة مِن التَّغَيُّر والآفات، لا يلحقها غَالِبًا عَجْزُ الْبَشَريَّة، وَلَا ضَعْف الإنْسَانِيَّة، إِذ لَو كَانَت بواطنهم خالصةً للبشرية كَظَوَاهِرِهِم لَما أطَاقُوا الْأخْذ عَن الْمَلَائِكَة وَرُؤْيَتَهُم، ومخاطبتهم ومخالتهم، كَمَا لَا يُطِيقُه غَيْرهم مِن الْبَشَر.
وَلَو كَانَت أجْسَادُهُم وَظَوَاهِرُهُم مُتّسمة بِنُعُوت الْمَلَائِكَة، وَبِخِلَاف صِفَات الْبَشَر، لَما أطَاق الْبَشَر وَمن أُرْسِلُوا إليْه مُخَالطَتَهُم، كَمَا تَقَدَّم من قول اللَّه تَعَالَى؛ فَجُعِلُوا من جهة الْأجْسَام وَالظَّوَاهِر مَع الْبَشَر، وَمِن جِهَة الْأَرْوَاح وَالْبَوَاطِن مَع الْمَلَائِكَة؛ كَمَا قَال ﷺ: “لَو كُنْت مُتَّخِذًا من أُمَّتِي خَلِيلًا لاتَّخَذْت أَبَا بكر خليلا؛ ولكن أخوة الْإسْلام، لَكِن صَاحِبُكُم خَلِيلُ الرَّحْمن” (1).
وكما قَال: “تنام عَيْنَايَ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي”.
وقال: “إنّي لَسْت كَهَيْئَتِكُم، إنّي أظَلّ يُطْعِمُني رَبّي وَيسْقِيني” (2).
فَبَوَاطنُهُم مُنزَّهَة عَن الآفات، مُطَهَّرَة عَن النقائص والاعتلالات.
وهذه جُمْلَة لَن يَكْتَفَي بِمَضْمُونهَا كُلّ ذي هِمَّة؛ بَل الْأَكْثَر يَحْتاج إِلَى بَسْط وتفصيل عَلَى مَا نَأْتِي بِه بَعْد هَذَا فِي الْبَابَيْن بَعَوْن اللَّه؛ وَهُو حَسبي وَنِعْم الوكيل.
(1) أخرجه البخاري (3654) عن أبي سعيد الخدري. تحفة الأشراف (3971).
(2) ابن عمر: مسلم (1102 / 55، 56). تحفة الأشراف (8353، 7965، 7575).
أبو هريرة: مسلم (1103 / 57، 58). تحفة الأشراف (14916، 13901، 12242).
أنس: مسلم (1104 / 59، 60). تحفة الأشراف (394، 407).
عائشة: مسلم (1105 / 61). تحفة الأشراف (17047).