خير نساء العالمين | فاطمة الزهراء (2).. في خير بيوت البشر وضعها القدر

بسم الله الرحمان الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وعلى الآل طرا والصحب ومن والاه.
آل النبي ذريعـتي ** وهُمو إليه وسيـــلتي
أرجُو بهم أُعطى غداً ** بيدي اليمين صحيفتي (1)
بمكة المكرمة ولدت السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام قبل بعثة أبيها عليه السلام بخمس سنوات. فوجدت قبلها في البيت ثلاث أخوات؛ زينب ورقية وأم كلثوم عليهن السلام.
وفي خير بيوت البشر، وضعها القدر.
واصطفاها المولى عز وجل لتكون خاتمة العقد النفيس ودرّته، وتمام حبّاته وجوهرته.
اختارها الكريم سبحانه لتكون رفيقة درب أبيها ومؤنسته، ولتحمل معه أعباء دعوته المباركة وتشاركه همّه وقضيته.
وقبل أن تكمل عامها الخامس بستة أشهر، تغير حال أبيها عليه السلام، فأصبح كثير الصمت، دائم الفكر، يحبُّ الخلوة ويميل إليها.
بل إنه خلال هذه الأشهر الستة الأخيرة أصبح دائم الغياب عن البيت، اللهم إلا أن يعود من خلوة ليتزود لأخرى، فيبيت معهم ليلة أوليلتين، ثم ينطلق نحوغار حراء متعبدا متحنثا، متفكرا متدبرا.
كانت خيوط القدر تُنسج بعيدا عن أعين الإنس والجان، فالموعد المبارك آن، واللقاء الموعود بين أهل الأرض وأهل السماء حان.
هذا التغير المفاجئ في حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الغياب المتواصل لا شك أثر على مشاعر الأسرة الشريفة كلّها، ولاسيما الصغيرة فاطمة عليها السلام، فقد كانت تربطها بأبيها علاقة وطيدة فريدة، ستتضح معالمها أكثر في قابل الحلقات.
ووالله كأني بها واقفة عند باب البيت تنتظر بلهفة عودة أبيها وحبيب قلبها…
وكأني بها تجري مسرعة كلما سمعت طرقا على الباب أوصوتا…
وكأني بها، وهي ذات الأربع سنوات، تسأل أمها: أماه أين يذهب أبي؟ لم أصبح يغيب عنا هكذا؟ متى يعود أبي.. لقد اشتقت إليه؟..
وكأني بها في أحضانه تكاد تطير من شدة الفرح وقد عاد من إحدى خلواته فضمها إلى حضنه الشريف…
وكأني بها والكلمات تتزاحم في فمها الصغير تحكي له خبر ما حدث في غيابه وهوصلى الله عليه وسلم مبتسم يلقي لها سمعه وقلبه…
وكأني بها تعد مع أمها زاده وتجمعه له لخلوة أخرى…
وكأني بها وهي عند الباب تودعه باكية وتقول له: لا تطل الغياب يا أبي، وهويضمها صلى الله عليه وسلم إلى صدره ويقول لها: لا تبكي فقريبا سأعود…
وكأني بها تُربّت على كتفيه الشريفتين بيديها الصغيرتين وقد عاد في تلك الليلة المباركة بعدما التقاه سيدنا جبريل عليه السلام يرجف فؤاده وهويقول زملوني… زمّلوني، وهي تربت عليه بيديها وتقول: لا بأس عليك يا أبي.
وكأني بها وهي تجر غطاء يؤودها حمله لتغطي به أباها وتزمله كما أمر.. صلى الله عليه وسلم.
علاقتنا بأبنائنا ليست وليدة لحظة ولا صدفة، إنها بناء عظيم وصرح ممرد من قوارير المشاعر الجياشة والعواطف الصادقة والتوجيهات التربوية الحانية البانية…
تبدأ هذه العلاقة قبل الحمل وآناءه تضرعا ودعاء رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (آل عمران: 38)، وبعد الولادة فرحا وحمدا وتسليما ورجاء وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (آل عمران: 36).
ثم تتوطد العلاقة لحظة بعد لحظة بالمحبة والشفقة، وتتمتّن يوما بعد يوم بالرحمة والرقة والثقة، لتصبح شجرة مورقة وافرة الظلال حلوة الثمار أصلها ثابت وفرعها في السماء، حتى إذا مات الأب لم ينقطع عمله، وإذا رحل الابن لم ينطمس ذكره ولم يضع أثره وَالذِينَ ءَامَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ اَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّٰتِهِمْ وَمَآ أَلَتْنَٰهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَےْءٖۖ كُلُّ اُ۪مْرِےِٕۢ بِمَا كَسَبَ رَهِينٞۖ (الطور: 21).
لعلّ السيدة فاطمة عليها السلام كانت حاضرة منذ البداية، منذ الإشراقة الأولى، وستبقى حاضرة إلى آخر نفس لأبيها عليه الصلاة والسلام، وآخر نفس لهذه الحياة فوق الأرض.. حاضرة بذكرها، بنسلها وذريتها عليهم السلام.
إنه الاصطفاء والاختيار.. وإنه الصناعة الإلهية واصطنعتك لنفسي (طه: 41).
إنها العناية الربانية حينما تختار عبدا من العباد أو أمة من الإماء فتغمسهم في رحمة بلا حد وتغدق عليهم نعمة بلا عد…
لقد كانت الزهراء عليها السلام مرادة مطلوبة…
وهل المراد كالمريد؟ وهل المطلوب كالطالب؟…
لله درّ الإمام الجنيد رحمه الله قال: المريد يسير، والمراد يطير، فمتى يلحق السائر الطائر؟! (2)..
ولعل السيدة فاطمة الزهراء ذهبت صحبة أبويها في صبيحة غد تلك الليلة المباركة إلى ورقة ابن نوفل ابن عم أمها خديجة رضي الله عنها… أو لعلها لم تذهب… ليس عندنا دليل على هذا ولا ذاك. لكن حتما بعد رجوع والديها من عند ورقة سيتغير حال البيت كله، بل حال العالم كله؛ فهذا عهد جديد قد حلّ، وفجر وليد قد هلّ.
وعلى مر سنوات ثلاث بعد هذه الحادثة، سترى السيدة فاطمة الزهراء، الصغيرة ذات الخمس سنوات، أباها يعقد لقاءات سرية مع المؤمنين في بيته قبل أن يجعل من دار الأرقم بن أبي الأرقم محضنا لدعوته المباركة…
كل هذه الأحداث، كل ما ستسمعه وتراه، سيرسم شخصية سيدة حلقاتنا، وسنرى لها من المواقف الثابتة والمشاهد الفذة لوحات خالدات قلما يرى نظيرها…
إنها بضعة من المصطفى وكفى.
وصلى الله وسلم على الحبيب المصطفى، وعلى الآل أولي الصفا، وعلى الصحب أولي الوفا، وعلى من اهتدى بهديهم وأثرهم اقتفى.
(1) من ديوان الشافعي.
(2) مدارج السالكين لابن القيم الجوزية. صفحة 917 / 1459.