حافظة الفطرة

سبحان الملكِ الوهابِ الخلاق العليم البارئ المصور، جعل أحشاء الأم قرارا مكينا للإنسان في أطوار تخلقه العجيب، وجعل له في الأرض مُستقـرا بعد ذلك إلى حين في كنَف رَحمتها ومودتها. من آياته العظمى سبحانه خلقُ الإنسان، ومن آياته العظمى ما جعل بين حنايا الأم من مودة للكائن الضعيف الغض المتوجِّه بكيانه الجديد كله إلى ما تلقيه إليه الأم من غِذاء لجسمه، المتشرِّب في طفولته إلى ما معها من دَرِّ القلوب وسَحِّ الإيمان إن كانت من أهل الإيمان.
جعل الله عز وجل حبلَ الفطرة ممتدا عبرَ الأجيال عن طريق الأمومة، مفتولا مُبْرَماً، شِقَّاهُ جسم الجنينِ ثم الطفل، وروحُ الطفل يحبو نحو الرجولة وينهض وله من قُدوة أمه وكلماتها البسيطة وإخبارها بحقائق وجود الله تعالى وخبر الآخرة زادٌ منه يستفيض عُمْرَه.
الفطرة الاستقامة الأصلية على الدين، علَّمَها آدم عليه السلام بنيه، وعلمتها أجيال بنيه وبناته ذريَّتَهم، ويبعث الله عز وجل الرسل كلما فترَتْ في الأقوام جذوة الإيمان ليبعثوها فيهم حية. والوالدان سفيران دائمان لوصل الرسالة الفطرية، خاصة الأم.
قال الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ولنا معه: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ (سورة الروم، الآية 29).
حنيفا أي مستقيما. والحنيفية سمحة سهلة بسيطة. لا يحتاج تلقينُ الإيمان للناشئ في حجر والديْه، خاصة أمِّهِ، لفلسفة واستدلال على وجود الله تعالى، وعلى معنى وجود الإنسان، وعلى موته ومصيره بعد الموت، وعلى الدار الآخرة وحقائقها. يكفي أن يُخبِرَه، وأن يجيب عن أسئلة بدَاهته، المصدَّقُ المحبوبُ الـمُحْسِنُ، أمُّه خاصة، فإذا بالإيمان يستقر في قلبه كاستقرار مادة الحياة موروثةً عن الوالدين.
هذه هي الجذور الفطرية السليمة للإيمان، فإن تلَوَّثت الـمُوَرِّثاتُ الإيمانية الفطرية في جيل نزل الجيل المولود مشوَّهَ المعنى كما تتشوه الخِلقة الجسمية بمرض الموَرِّثات الجسمية وفسادها. ويحتاج الأمر في الحالتين إلى تطبيب.
بعث الله عز وجل محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم المرسلين في أمة أمِّية، قريبة من حالة السلامة الفطرية، بريئةٍ مما كان في أمم الهند وفارس والروم من فساد في الفطرة وانسداد في مسالكها بالفلسفة والحملقة الفكرية اللاهية في الدنيا عن السُّؤال البديهي: من خلقني، ولماذا، وإلى أين مصيري بعد الموت؟ بعثه سبحانه إلى أمة أمّية، نِسبةً إلى الأم، لا تزال محتفظة ببقايا الحنيفية السمحة من ملة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. دخلت الوثنية والشرك على الفطرة فشوّهتها، لكن الإقرارَ بوجود الرب الخالق الرزاق كان خبرا موروثا. غابت حقائق الآخرة وزعم المشركون العرب: مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ (سورة الجاثية، الآية 23)، لكن المحَلَّ كان سرعان ما يتقبل الحق من النذير البشير لأن المحل لم ينشغل بفلسفة ملتوية على نفسها تنفُث السموم. إنما كانت دهريَّة ساذَجَةً تذروها نسائمُ التبليغ الصادق بِلا عناءٍ.
وحفظ الله عز وجل الفطرة في أجيال المسلمين، من أهم ما حفظ، بتربية الأبوين المسلمين المؤمنين. حتى نصل إلى عصرنا، وإلى ضَعْفِ المحفوظ من الفطرة عند أمهات الغثاء، وانحرافه عن الاستقامة الحنيفية، وتَسَرُّبه في رمال الفتنة ورماد المادية القاحل.
نَكْبَةٌ ورَقدة في الفطرة لا يمكن أن ينبريَ لها بقومة مُحْيِيَةٍ مقومة إلا أمهات صالحات قائمات بوظيفتهن الحافظية كاملة غير منقوصة. وإنك تجد أمهات الغثاء اللاتي ضيَّعْنَ على مَدَى أجيالٍ الجَديلة الـمَعْنويَّة من ضفيرة الفطرة يعتنين بدقة بما يرضَعُ الطفل ويلبَس ويُطبَّبُ. لكنهن عن نشأته الإيمانية ورَضاعِه الفطري في غياب مُذهل. الجسمُ يُدلَّلُ ويُنعم ويُصان، والروح تربيتها سائبة ناكبة غائبة. تنطق هذه الحالة الرديئة بِدهريَّة تّقّمصت الأم وظللت طفولة أبنائها وبناتها بقَتامِ الغفلة عن الله، وظلام الجهل بما أنزل الله، وضبابِ الحِياد والتجاهل واللامبالاة أمام السؤال الفطري المصيري الأخروي. لا تخبر الأم ولا يأبَه الوليدُ.
من كتاب العدل للإمام عبد السلام ياسين، ص 302.