الأسرة والقرآن

موضوع الأسرة والقرآن يتكون كما يظهر من عنوانه من عنصرين هامين؛ الأسرة وهي عماد المجتمع ولبنته الأساسية في بناء الأمة، والقرآن الذي عليه مدار حياة المؤمن وعزة الأمة. فنحن بصدد الحديث عن أمرين أساسين هامين في بناء أمة الاستخلاف.
الأسرة في القرآن الكريم
القرآن الكريم هو كتاب الله الذي حوى بين دفتيه كل ما يحتاجه الإنسان في الحياة الدنيا، إعمارا للأرض وسلوكا وسيرا إلى الله والدار الآخرة إما إجمالا أو تفصيلا.
من بين أهم المواضيع التي اعتنى بها القرآن عناية كبيرة وفصّل فيها تفصيلا دقيقا موضوع الأسرة، سواء على المستوى التشريعي أو السلوكي الأخلاقي، لأن في حفظ الأسرة حفظ للإنسان وتوجيه لمسار العمران.
من المقاصد الشرعية للأسرة في القرآن الكريم؛ حفظ النسل لإعمار الأرض، وتنظيم علاقات أفرادها، والإحصان والعفاف، وبناء الإنسان، والتواصل الاجتماعي والتعارف الإنساني.. وغير ذلك من المقاصد. فصلاح الإنسان مرتبط بصلاح الأسرة، وارتقاء العمران مرتهن بصلاح الإنسان، لذا سأركز على المقصد الشرعي الأول والذي قد تأتي كل المقاصد الأخرى تبعا له، وهو حفظ النوع وصلاح الإنسان بحفظ الفطرة السليمة لإعمار الأرض عبودية لله تعالى.
يقول الحق سبحانه: والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة (سورة النحل، الآية 72)، ويقول كذلك: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة (سورة التحريم، الآية 6).
هذه الآيات يخبرنا فيها الحق سبحانه وتعالى أنه خلق الأنفس وخلق منها زوجها ليجعل منهما بنين وحفدة، ثم أمر في الآية الثانية بوقاية هذه الأنفس والأهل من النار. هذا الأمر الذي ورد في الآية يوضح بجلاء الوظيفة الأساسية لكل مسئول وراع للأسرة، حيث مهمته الأولى هي الوقاية من النار لنفسه وأهله، “فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته” كما ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتخلي عن هذه المهمة قد تصل حد الخيانة للدين ولله وللرسول، على قدر الاعتقاد بها من عدمه، وقد نجد بعض من جانبوا الصّواب في هدفهم من تكوين الأسرة ومن تربية أبنائهم فنعّموا الجسد ودللوا العواطف في غفلة تامة عن المهمة الأساسية من التربية، ألا وهي الحفاظ على الفطر سليمة حتى تتمثّل العبودية للحق سبحانه. بل قد نجد من هم أكثر جنوحا، حيث وصلوا إلى فساد وإفساد الأسرة لتخرج عن مسارها الطبيعي بالكلية، كما نسمع عن أسر المثليين مثلا.
فالأسرة من بين أهم الأمور التي يختلف فيها أهل الإيمان مع أهل الضلال، فلا ينبغي أن ننجرف وراء زيف حضارة المادة في أحوالنا، وأضرب مثلا يعلمه الجميع وهو حرص مدارس التعليم الخصوصية على تعليم الأولاد اللغات الأجنبية منذ نشأتهم ابتداء من الحضانة عند بعضهم، وهذا واقع لا نستطيع تغييره، ولكن ما يزيد الطين بلة هو حرص كثير من الآباء والأمهات على الحديث مع أبنائهم بهذه اللغات في البيوت لأنها عندهم مظهر من مظاهر التفوق، بل وينفقون الكثير في تعزيزها وتقويتها، وفي المقابل لا حظ للقرآن ولا لغته لا إنفاقا ولا اهتماما، وننسى أن هذا الأمر يكسب أولادنا أعجمية في اللسان والفكر، بل وأكثر من هذا تبني حضارة أهل اللغة، لأنه ليس ثمة تعليم لغة مجردة عن بيئتها.
فالمطلوب بذل الوسع في الحفاظ على أسرنا بآدابها وسمتها ومميزاتها الشرعية وخصوصية علاقاتها الاجتماعية وغير ذلك، لأن هذه الأمور كلها هي ما تميز الشخصية المؤمنة عن غيرها، فلا ننتظر حتى يشب الطفل لنطلب منه الالتزام بالأخلاق القرآنية حبا وتعظيما. ينبغي أن يكون هدف الزوجين الأول من بناء الأسرة التعاون على دين الله، ومن الذرية الحفاظ على الفطرة السليمة لتعبد الله كما أمر وتحقق الهدف من استخلاف الإنسان في الأرض، بل ينبغي أن يكون هذا الهدف حاضرا نية خالصة، واضحا جليا في العقول، ومتعلقة به القلوب عند أول خطوة نخطوها لتكوين الأسرة.
وقد نطرح سؤال الكيف لنجيب من خلال المحور الثاني: الأسرة بناء.
الأسرة بناء
يقول الحق سبحانه وتعالى: أفمن أسّس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسّس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين (سورة التوبة، الآية 109).
أي أفمن جعل أساس بنائه مخافة الله ورجاء ثوابه كمن أسَّس بنيانه على شفير هار يتداعى بعضه في إثر بعض في نار جهنم. والأسرة بناء، فهي تبدأ صغيرة لتكبر وتمتد، وحتى يكون بناء الأسرة على تقوى من الله لا بد أن تنصبّ كل مشاريعها – وأعظم هذه المشاريع الخلفة – في غاية واحدة هي العبودية لله سبحانه: قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (سورة الأنعام، الآية 162).
والسبيل والمعين بعد الله تعالى لتصبح صلاتنا ونسُكُنا ومحيانا ومماتنا لله تعالى هو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يقول الحق سبحانه: ذلك الكتاب لا ريبْ، فيه هدى للمتقين (سورة البقرة، الآية 2)، ويقول عز من قائل: إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم (سورة الإسراء، الآية 20)، فهو كتاب هدى، وهَدْيُه هو هديٌ للتي هي أصوب وأحسن على الإطلاق.
مع القرآن بدأت رحلة بناء الإنسان، فلم يكن مع الصحابة والصحابيات الكرام إلا القرآن، معه زكت حياتهم ومعه شَقّوا طريقهم صعدا نحو المعالي. فهذه الصحابية الجليلة النوار بنت مالك حرصت على تعليم ابنها الصحابي الجليل زيد بن ثابت قيم الإسلام منذ صغره، ودفعت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتعلم القرآن الكريم منه مباشرة. أما عن البذل في سبيل تعليم أبنائهم القرآن فقد ضرب السلف الصالح أروع الأمثلة في هذا الباب، فهذا أبو حنيفة رضي الله عنه يدفع لمعلم ابنه الفاتحة خمسمائة درهم، فاستكثرها المعلم فأجابه أبو حنيفة رضي الله عنه: لو كان معنا أكثر لدفعناه إليك تعظيما للقرآن. بل إنهم كافئوا من حفظ القرآن من الأطفال بسخاء لعظم شأن ما قاموا به، حيث أوقف صلاح الدين الأيوبي جزءا من مزرعته لطفل وأبيه حين سمعه وهو يقرأ القرآن. وهذا الضحاك بن مزاحم معلم الصبيان كان يطوف بحماره ليشرف على طلاب مكتبه الذين بلغ عددهم ثلاثة آلاف صبي وكان لا يأخذ مقابلا عن عمله.. وما أئمة الأمة العظام إلا نماذج للتربية القرآنية كما تحكي سيرهم، نماذج عرفت فلزمت وهان عليها ما بذلت، كانت الوجهة واحدة، وسعى الكل لبذل الجهد من ثغره الواقف عليه آباء وأمهات ومعلمين وطلبة، لأنهم علموا أن القرآن هو حصن الأمة الحصين، هو من يحمي من الزيغ والضلال، وبه عزتهم وعزة أمتهم. ونحن اليوم لا خيار لنا لإصلاح أنفسنا وأهلينا وذريتنا إلا بالرجوع إلى القرآن الكريم أمرا ونهيا وأخلاقا وعظة وحُكَما وحَكَما، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في ديننا ودنيانا، فبه يحفظ الله الحافظ والعامل به، ويزيده هدى وتقى.
يهدي للتي هي أقوم في ألسنتنا؛ فمن تعلم القرآن قويت حجته وانطلق لسانه وزادت ثروته اللغوية وازداد نباهة وذكاء، فكان هذا سببا في حرص سلفنا الصالح رحمهم الله على تعليم أولادهم القرآن في أول نشأتهم.
يهدي للتي هي أقوم في سلوكنا؛ فبه حياة القلوب تزدهر، وصفاء السريرة يعلو، وبه تنجلي غمة الوهن الذي هو حب الدنيا وكراهية الموت، جاء في حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم: “مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت“، وأفضل الذكر القرآن، فلنجعل بيوتنا حية بقراءة القرآن وتدبر القرآن وحفظ القرآن وتكراره وإتقان تلاوته. تحتاج أسَرُنا أن تنجمع على كتاب الله ليجمع الله شملها ويهديها سبلها بالتوفيق في الدارين، فقراءة القرآن وتدبره يذكر المعاد وينهض الهمة للعمل ويزهد في الدنيا لأنها متاع الغرور وتحل بركة القرآن بالأهل فتحفظهم وبالرزق فتوسعه وبالولد فتصلحه وبالعمر فتباركه وكل شيء إلا وحلت به بركة القرآن، فما زاحم القرآن شيئا إلا باركه، فلا نطلب البركة بعيدا عنه ولا نبتغي الهدى في غيره ولا نرجو الرفعة بسواه.
لذلك ينبغي أن يكون هم كل راع وراعية للأسرة تعليم الأولاد القرآن، وأن يحرصوا على ذلك حرصا شديدا، فيجعلوا ذلك من أولى أولوياتهم قبل المأكل والملبس والدراسة، فهو قبل كل هذا ومعه وبعده، نعلمهم حفظه أخلاقا وملازمته قراءة وتعظيمه مكانة والارتواء منه فهما وتدبرا ليُتَوَّج كل ذلك بحفظه حرفا.
فلنبنِ أسرنا على أساس القرآن وليأت الكل تبعا له، ليبقى البناء متماسكا متراصا لا تأخذ منه فتن الدنيا فيصبح بناء مهترئا آيلا للسقوط لا قدر الله، حفظ الله أسرنا جميعا.
بعض الإضاءات على الطريق
– القدوة الماثلة أهم شيء في التعليم، فلنبدأ بأنفسنا ونضبط سلوكنا ومعاملاتنا وتسيبنا في الأوقات والعبادات، فلا يمكن الحديث عن برامج تربوية أو تعليمية.. مع التسيب والفوضى في أوقاتنا وحياتنا.
– حرصنا على هذا الأمر وجعله أولوية في حياتنا يجعلنا نبدع في الوسائل والطرق، ولن تعوزنا الوسيلة بعون الله.
– نجتهد في معرفة أبنائنا وميولاتهم وشخصيتهم، لنحبب إليهم القرآن من أقرب الطرق إلى قلوبهم.
– نستمتع بجلسة أسرية جماعية لقراءة القرآن والاستماع إليه.
– نستمع لأبنائنا وهم يقرؤون القرآن.
– نهديهم مصاحف جميلة.
– نجعلهم يؤمون في الصلاة بين الفينة والأخرى.
وغير هذا من وسائل تحبيب القرآن لأبنائنا كثير، فلن نستطيع حصر ما يمكن فعله ولكن من جد وجد ومن عمل وصل ومن بحث تعلم.
فلن تعوزنا الوسائل والطرق لحفظ كتاب الله وتحفيظه لأبنائنا إن نحن حرصنا على جلسة لازمة له، وكانت عندنا إرادة عازمة على الحفظ. كما أن أطفالنا هم من عملنا الصالح إن شاء الله الذي نقف به بين يدي الله يوم القيامة، فلنحرص على أن نقدم هذا العمل في أبهى صوره، حافظا محفوظا بالقرآن، متقنا لقراءته، متخلقا بأخلاقه، داعيا إليه، عاملا به، ولنبذل وسعنا في ذلك تحفيزا ومتابعة وصبرا ومصابرة واهتماما وقدوة ماثلة منا لهم. وقبل هذا وبعده الدعاء والرجاء من الله أن يجعلنا وذريتنا من أهله وخاصته.
وأختم بقولة للإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى ورضي عنه: “فمن كان أساس بنائه القلبي والفكري كتاب الله عز وجل خليق أن ينعكس فضل القرآن ونوره على حياته، ولن تزال هذه الأمة بخير ما اتخذت القرآن عمدة التعليم والتربية وقوامهما” (إمامة الأمة، ص 165).