كن قائدا فالتاريخ لا يعترف بالجنود

قال الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله “إنه تغيير واقع أمة فلا بد له من رجال أوتاد يمنعون الخيمة أن تعصف بها الرياح” (1). الأمة بحاجة إلى قيادة راشدة نورانية لجمع جهودها المبعثرة، قيادة تضمد جراح حرب دامت لسنوات عجاف، قيادة توضح خط الجهاد الذي ينتظر الأمة وتربيها تربية إيمانية، وتنظم فيها الإرادة الإيمانية.
وهذا يحتاج إلى “قيادة مؤمنة وعمل تربوي وحكمة تنظيمية، لكي لا تذهب جهودنا في فوضى ردود الأفعال الموقوتة الانفجارية أمام تحرك الأعداء” (2) يقول الإمام ياسين، لأن الجماهير المتحمسة التواقة إلى التحرر بدون قيادة تضبطها وتوجه حماسها، تجلب الفوضى والعنف والأعمال الطائشة..
وهذه الطليعة الواحدة أو المتعددة المنتظمة في رابطة بمثابة الكائن الحي؛ يولد ويترعرع حتى يصلب عوده ويقدر على الاستقلال بنفسه، ثم في مرحلة ثانية – بعد اكتساب القوة الذاتية – يدخل في طور الاستمرار والبقاء والنمو.
فالمرحلة الأولى تبدأ بتأسيس الجماعة، ويبرز أشخاص يملكون من خصال الشجاعة في الحق، والدراية بالواجب الشرعي، والغيرة على مصير الأمة ما يؤهلهم إلى القيادة تأهيلا أصيلا، نتيجة لسابقتهم التربوية والجهادية. والقيادة بتميزها الرباني وبتآلف رجالها الصادقين يقتفون أثر القائد الأسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفائه وأصحابه، فهم أساس القيادة ومنهج الريادة.
وتبدأ المرحلة الثانية عند بلوغ الجماعة رشدها وتماسك بنائها وتقوية شوكتها، وهي مرحلة الشورى والرجولة ونضج ثمار التربية، وتمكن الرجال من أخلاق الصدق والتعاون ونبذ حب الرئاسة والتنازل عن الرأي الشخصي لحضن رأي الأغلبية.
بعد البناء الأول والثاني يأتي دور أساس هو: العدد والتنظيم؛ فالجماعة القادرة على إبطال الباطل وإحقاق الحق هي الجماعة المكتملة البنية، المتينة الارتباط. ويصبح التنظيم بمثابة الجسم البشري؛ عضلاته كثرة العدد، وهيكله العظمي رجال التنظيم، والدم الساري هو الإيمان، وباقي الأعضاء الداخلية هي الأجهزة القيادية، حتى نصل إلى القيادة العليا والتي هي بمثابة الرأس المفكر والقلب المحرك.
إن التفاف العدد حول قيادة شديدة رحيمة سلاح حاد؛ إن قل العدد ضاعت الجهود القيادية، وإن تضخم العدد بلا تنظيم، أي بلا قيادة منظَّمة منظِّمة، أصبح الجسم مترهلا غثاء، لأن جسم الأمة هم أفرادها الأمناء الأقوياء، بمشاركتهم يمكن تغيير مجرى التاريخ.
إن القيادة تحت أنظمة الفتنة، والعمل على إطاحة الباطل، وإعادة بناء الدولة؛ إدارة وسياسة واقتصادا، وتوحيد صفوف المسلمين، ثم تقرير مصير الإنسانية، لا بد لها من تنظيم قوي، من شروطه: الربانية والمحبة والصدق والتشاور والانجماع على وحدة الرأي، والرحمة بالمؤمنين والشدة على الأعداء.
هي وثبة من حاضر الانحطاط إلى مستقبل العز والكرامة. رحلة شاقة، تحتاج الصبر والمصابرة.
ويلزم أن تتوفر في القائد الشروط الآتية:
الإمام صلب الأمة: هنا نركز على أهمية تشخيص القيادة في رجل مختار مسؤول حوله تدور رحى جهاد التغيير. “مكان القيم بالأمر مكان النظام من الخرز (أي مثل الخيط الذي تنظم فيه حبات العقد) يجمعه ويضمه، فإذا انقطع النظام تفرق وذهب ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا (…)، فكن قطبا واستدر الرحى بالعرب” قائل هذا القول رجل الإمامة والزعامة والبلاغة الإمام علي عليه السلام.
قطب الرحى منتصب وسط قاعدته، وكذلك الإمام إن برز من وسط الأمة، منها وإليها، تحيط به وتعض على قيادته بالنواجذ.
قيادة رصينة لعالم مضطرب: هذه القيادة لا تنبني على غثاء حماس سرعان ما يخبو ويندثر، بل هي قيادة تنبني على الولاية الإيمانية، لا على الوعود البراقة والخطب الرنانة، متوكلة على الله ثابتة الخطى، توحد الصف، وتدل الجند على مهامهم.. قيادة تقوم علاقتها مع بقية التنظيم على المحبة والشورى والطاعة، فلا يتخذ القائد قراره إلى بعد حصول اللحمة القلبية والأخذ بالرأي.
يقول الله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (آل عمران، 159)، آية عددت خصال الإمام وأوضحت الحدود بين الفظاظة والعنف، وبين الليونة واللطف، فبالعفو والاستغفار والشورى تسير أمور الجماعة المسلمة، استعدادا للحظة الصرامة والعزم والوثب.
ونظرا للطبيعة البشرية التي يعتريها النقص، فإن هذه الجماعة تتربص بها أمراض، من بينها مرضان رئيسيان، هما:
العجب والتكبر: قال الإمام علي مخاطبا أحد عماله: “وإياك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها وحب الإثراء، فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون إحسان المحسنين. وإياك والمن على رعيتك بإحسانك أو التزيد فيما كان من فعلك أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإن المن يبطل الإحسان والتزيد يذهب بنور الحق والخلف يوجب المقت عند الله والناس، قال الله تعالى (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)”. كلمة تحذر من أقبح ما يمكن أن يصيب القائد فيرديه.
البطانة: أخرج البخاري والنسائي رحمهما الله عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما بعثَ اللهُ من نَبِيٍّ، ولا استخلَفَ مِنْ خليفَةٍ إلَّا كانتْ لَهُ بطانتانِ: بطانةٌ تأمرُهُ بالمعروفِ، وتحضُّهُ عليْهِ، وبطانَةٌ تأمرُهُ بالشَّرِّ، وتحضُّهُ عليه، فالمعصومُ مَنْ عصمَهُ اللهُ”. لذلك كان على القائد أن يحتاط في اختياره أصحاب الرأي والمشورة.
(1) عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ص 42.
(2) نفسه، ص 6.