“الديوانة”.. اقتصاد اهتز أم لغم انفجر؟

أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (التوبة، 109).
كل بناء أساسه فاسد فمآله إلى هدم واندحار، وكل بناء أساسه سليم قويم فمآله إلى ازدهار.
كيف يمكن لمدينة تحتمي منذ عقود سابقة بمصدر رزق وحيد أن تصمد أمام هذا “التغيير” الاقتصادي المفاجئ ودون طرح بدائل؟
كيف يمكن لمدينة محفوفة بأجمل الطلات وأفخم المنتجعات أن تتفجر سكانيا ببناء عشوائي؟
كيف يمكن لساكنة عاشت بترقيع أيام حياتها أن تخيط الآن أفواه أبنائها؟
كانت مدينة الفنيدق منذ سنوات طويلة سوقا تجارية مهمة، إلا أن هذا النشاط الذي كان يستقوي موسميا ببعض “السياحة”، كان كذلك مضطهدا مُؤلما؛ يكلف الدولة ملايين الدراهم ويدفع بالأمهات والآباء والشباب إلى باب نار تلفح كرامتهم وتحرقها!
مدينة الفنيدق لم تكن صامتة، كان أنينها دائما مستمرا يعبر عنه وفاة النساء “بمعبر الموت”.. معبر تمر فيه الحياة مخنوقة والكرامة ممحوقة.. معبر كريه، يقتات منه على كراهته الدراويش وكثير من هم.. أمهاتنا وآباؤنا وإخواننا وأطفال جيراننا.. كلهم شممنا فيهم كراهة هذا الباب فتألمنا، كم من ندوب أتوا بها مساء – تحكي خالتي – تمنعهم من النوم لأسابيع.. وأين النوم؟ لا نوم! لأن وقت الغسق وقت المعبر!
تعود خالتي للكراهة مُكرَهة.. فعدة تلال مرزومة فوق ظهرها تمدها بأكثر من 400 درهم!
معبر سبتة “الديوانة” كان المشيمة التي تحوي الجنين العليل.. لم تكن يوما مدينة الفنيدق منطقة تجارية قوية، أي اقتصاد يبنى على حساب كرامة أهله فهو فساد في صورة إنعاش مميت!
معبر سبتة خنق حق التعليم.. كيف الذهاب للمدرسة و الدراهم بباب النار! حقا كيف نقبل بالنار مقابل الدنانير! بكل حسرة نقبل.. نعم نقبل! أين البديل؟
معبر سبتة باب تجارة منذ عهد البغال لحمل السلع، تغيرت الأمور مع الوقت واشتدت، وتغيرت معها البغال!
قلنا مدرسة؟! قلة من يقاومون لمتابعة تعليمهم العالي، وتحمل مشقة التنقل للجامعة طمعا وأملا في إنقاذ ما يمكن أن ينقذ، إيمانا بشيء ما يبدو بعيد التحديد فكيف بالمنال.. أما القلة الأخرى آمنت بخطاب “الجامعة ليست امتيازا” وسعت لأبواب التكوين المهني؛ منهم من نجا بحرفة ومنهم من نجا من الغرق ومنهم من باغته الموج فاختفى! لتختفي فيما بعد أي قشة نجاة بعد الإغلاق وبعد الوباء..
كيف نقول أن اقتصاد الفنيدق مبني على معبر سبتة؟
اقتصاد لا يحترم إنسانية أهله هو وحش لا اقتصاد!
حيثما سمعت الأنين فاعلم أن ألما هناك.. لم يكن بمقدور البنايات السياحية المحيطة بـ”كاستييخوس” ولا ميناء طنجة أن يكتما صوت الأنين والأذى؛ بطالة مقنعة مستمرة، رغم محاولات مؤسسات استثمارية عدة، إلا أن أيادي الفاسدين طويلة، ومعبر الذل يسحب الشباب سحبا، ودراهيمه الحارقة تكوي ثقوب الجيوب وتضع بضع لبنات في نظام عشوائي يسميه المساكين “سكنى” بحثا عن سكون استعصى!
السياحة في الفنيدق صورة لا غير؛ محتواها فقير وإغناؤه يستوجب انخراط الكل، وهنا أعني بالكل جميع من بيده سلطة تخول له العمل، سواء رسميا أو مدنيا.. بروح وطنية وحب للمدينة ولأهلها وضمير أخلاقي نبيل.
الحركة الموسمية التي كانت تشغل شباب المنطقة غابت هذا الموسم جراء الوباء.. فاستفلحت الجروح والنكبات، وانضاف إلى ألم الغلق ألم القحط..
استنزفت هذه الأوضاع الصعبة حصالة كل أهالي الفنيدق، وخلت بيوتهم من دفئ الفراش، ومنهم من افترش الزقاق.. وفجرت هذه الأوضاع لغم وهم الاقتصاد..
صرخة الفنيدق صرخة هوية، رغبة في الانتماء للوطن، فلطالما كان انتماؤها لمعبر الذل سبتة! ليس غريبا الآن أن تنتفض المدينة قهرا، قهرا من لقمة كانت تأكلها قهرا، وتسجن اليوم في سبيلها قهرا!
إن وقوف الشعوب بالشارع في وطن وهن بالنكبات هي علامة تستوجب الانتباه والاحتضان.. إن وقوفهم في الحقيقة تجسيد لعبارة “تعبنا فكفى”، تجسيد لسياسات فاشلة وشعارات واهية، تجسيد للوطنية وحب البلاد والرغبة في وطن أفضل..
فرفقا بالفنيدق وبعقود صمتها، رفقا بأرواح الشهداء والشهيدات فيها، رفقا بجثث الغرقى، رفقا بالأمهات المكلومات، رفقا بمقاعد الأطفال الفارغة بالمدارس، رفقا بالبطون الجائعة، رفقا بالمرضى والمقهورين، رفقا بعفة الرجال وكرامة الشيوخ ونخوة الأبطال.
رفقا!! فالهوية حق ولقمة العيش أحق..