الفنيدق.. المغرب الصغير

الفنيدق مدينة ساحلية صغيرة وهادئة عرفت في الآونة الأخيرة احتجاجات اجتماعية أسفرت عن اعتقال أربعة من شبانها ومحاكمتهم بتهم عدة؛ منها خرق الحجر الصحي. لكن هل الجوع يعرف قانونا أو بروتوكولا؟ هل الفاقة والحاجة تميز بين الأوضاع العادية وما عمقته البروتوكولات التي اتخذت جراء انتشار وباء كورونا؟
مدينة الفنيدق مرآة تعكس واقع العديد من المدن والقرى المغربية التي تعاني من التهميش والإقصاء الاقتصادي والاجتماعي، ومن السياسات الارتجالية التي لا تجعل حاجيات المواطنين أولوية في تخطيطها.. معاناة بدأت قبل جائحة كورونا وقبل الإغلاق الفجائي لمعبر سبتة المحتلة بكثير.
معاناة سكانها بدأت عند تهميشها من المخططات الاقتصادية الكبرى، ليعتمدوا منذ عقود على معبر سبتة المحتلة في البحث عن فرص الشغل؛ إما عن طريق الاشتغال في الشركات الإسبانية بطريقة قانونية وما يصاحب ذلك من التنقل اليومي بين مدينتهم والولوج باكرا إلى المدينة المحتلة التي تعرف انتعاشا اقتصاديا تحت السيطرة الإسبانية، أو التهريب المعيشي للبضائع الإسبانية وبيعها في الأسواق المجاورة كتطوان والمضيق وحتى طنجة.. وجعل مدينة الفنيدق مقصد كل مستهلك للبضائع الأوربية، لتصبح بجهد سكانها مركزا تجاريا منتعشا تعيش من ورائه آلاف الأسر.
عيش يسد رمق الجوع ويكف الأيدي عن الطلب والتسول، لكنه عيش قضي عليه بعد إغلاق سياسي للمعبر من طرف المغرب دون تقديم توضيحات أو إعداد بديل اقتصادي لسكان المنطقة المنحدرين من القرى والمداشر المجاورة، والذين يجدون في الفنيدق مأواهم الاقتصادي والاجتماعي. لتأتي إجراءات الإغلاق المصاحبة لانتشار الفيروس في شهر مارس من العام الماضي وتقضي على ما تبقى من الأنشطة التجارية الصغيرة.
الفنيدق تمثل النتائج الواضحة لعشوائية القرارات والسياسات الترقيعية والوعود الرنانة، وخروج سكانها بعد أن أعياهم الانتظار للاحتجاج سلميا سبق أن تردد في المنطقة المجاورة لها لأسباب مشابهة؛ ففي مدينة الحسيمة الساحلية اندلعت منذ أربع سنوات احتجاجات سلمية على أوضاع المدينة الاجتماعية، أدت الى اعتقال خيرة شبابها وزجهم في السجن تحت طائلة أحكام قضائية ثقيلة لمجرد أنهم طالبوا بفرص شغل لهم ومستشفى يتعالج فيه أقرباؤهم من مرض السرطان وجامعة يتعلم فيها أبناؤهم قيمة الحياة.. مشاكل اعترفت بها الجهات الرسمية لكنها للأسف قابلت المطالبة بها بالزج بأبناء المنطقة في منفى السجون. وما المنطقة الشرقية أيضا ببعيدة عن هذه المعاناة؛ فشباب مدينة جرادة اليوم موزعون بين شاب مقتول في مناجمها التي استنزفت من الشركات الكبرى وبقيت الساكنة تقتات على فتات موائدها، وما بين مسجون لجهره بما يعلمه الكل ومطالبته بتحسين أوضاع المنطقة. نفس الحكاية تكررت أيضا في آسفي المطلة على المحيط الأطلسي والتي يضم باطن ترابها معادن نفيسة لا ينتفع سكانها منها بتاتا..
صدى صرخة ظلم اجتماعي واقتصادي أخرى دوت مؤخرا في مدينة طنجة؛ من قبو شركة نسيج لا تتوفر على أبسط معايير السلامة، ليقضي نحبه أزيد من 29 مواطنا، انضافوا إلى لائحة طويلة من آباء وأبناء وأزواج فضلوا خوض غمار الأمواج بحثا عن لقمة عيش تصون كرامتهم، ومنهم أحمد بوهبوه؛ أحد سكان الفنيدق، الرجل الميسور الذي سدت في وجهه كل السبل ولم يجد من بديل سوى محاولة الدخول إلى مدينة سبتة المحتلة سباحة ولسان حاله يقول “الموت ولا المذلة”.
موت خلف من ورائه أرملة ويتامى، ومذلة يتقاسمها الشعب المغربي من الفنيدق إلى قرى ومداشر الأطلس، مرورا بالمدن الكبرى التي تعرف انفلاتا أمنيا وجرائم يومية، وما مدينة فاس العلمية إلا مثال عن هذا الواقع المزري..
لائحة تطول يوما بعد يوم، مدن تلتحق بركب المنتفضين، وأرواح تقضي إلى ربها بسبب فساد واستبداد استشرى في دواليب الدولة حتى أضحى قاعدة لا استثناء، فإلى متى تصمد بقية المدن وسكانها؟ سؤال يجب على المسؤولين إعداد الجواب له.