الحزام السحري (قصة قصيرة)

الكذب آفة العصر ومعضلة كبيرة يلجأ إليها الجميع لتبرير أخطائهم أو إخفائها عن الغير، ظنا منهم أن ذلك يجنبهم الوقوع في الحرج ويحفظ ماء الوجه، لذلك فهم يختارون الكذب طريقا سهلا يسلكونه، لكنهم سرعان ما يكتشفون أن آخره هاوية سحيقة لا قرار لها.
إنها قصة عمر الذي تعلم درسا لن ينساه من أمه الحكيمة، وتيقن أن الصدق من مكارم الأخلاق، والكذب ليس له سيقان.
بعد تناول طعام الغذاء بصحبة أفراد العائلة، دخل عمر غرفته ليستريح قليلا، فهو اليوم لا يدرس في المساء، ولديه فرصة لممارسة رياضة كرة القدم مع زملائه في المدرسة، هذا ما كان يفضله عمر، وحاول إقناع أمه بأنه سيذهب إلى الملعب، ولن يتأخر، أما الواجبات المدرسية التي تنتظره فسيكملها عند رجوعه من الملعب باكرا هذا المساء.
هذا ما وعد به الصغير أمه، لكن الكلام لا يصدقه إلا الفعل، مر وقت طويل واقتربت الشمس من الغروب وعمر لم يعد بعد، بدأت الأم تقلق لتأخر ابنها واستعدت للخروج لتفقده وإعادته معها إلى البيت، وما إن همت بذلك حتى سمعت صوت ابنها قريبا من البيت وهو يودع أصدقاءه الذين رافقوه.
دخل الصغير وهو يضحك فرحا بيومه الذي أمضاه في اللعب مع زملائه، لكنه اصطدم بأمه الواقفة أمامه منزعجة وغاضبة على هذه اللامبالاة منه، فحاول الاعتذار بأعذار واهية ليسكن من غضب الوالدة وحدتها، وأخبرها بأن هذا التأخر لن يتكرر مرة أخرى، واستأذنها بأن يصعد إلى غرفته لإنجاز واجباته المدرسية التي تنتظره.
كان متعبا وهو يغالب النوم، ولم يتمكن من التركيز كثيرا، وبدأت السطور تتراقص بين عينيه، والحروف تتضاءل ويصغر حجمها، وتظهر كأنها نمل صغير يسير في قافلة طويلة، والسطور المرتبة اندمجت بينها وكأنها سطر واحد سميك. حاول عمر جاهدا إبقاء جفنيه مفتوحتين دون جدوى، فاستسلم المسكين للنوم ورمى بجسمه المتثاقل في فراشه.
صعدت الأم لتتفقده قبل أن تخلد بدورها للنوم، غطته بعد أن خلعت خفيه اللذين كان لا يزالان ملتصقين برجليه، وهي تعلم أن الصغير لم ينجز واجباته المدرسية لأنه أسرف في اللعب، ولم يلقي بالا للوقت الذي ضيعه، فكانت النتيجة غير سارة كما ترى.
في الصباح وقبل الخروج للمدرسة، تطلعت الأم لابنها وهي تسأله إن كان قد تمكن من إتمام واجباته البارحة، فأجاب عمر بسرعة بالإيجاب ليطمئن والدته، وأشاح بنظره عنها حتى لا تكتشف خجله وكذبه. تظاهرت الأم بالتصديق، وودعت ابنها ورافقته إلى الباب كعادتها وهي تتبعه إلى أن توارى الصغير عن ناظرها.
فكرت الأم مليا بحالة ابنها وقررت تأديبه حتى يرجع عن عادته السيئة وعن الكذب قبل أن يتحول من عادة إلى عاهة مستدامة ترافقه مدى حياته.
وعند رجوعه في المساء للبيت وقبل الخلود للنوم، نادت الأم ابنها عمر وأهدته حزاما لم يره من قبل في خزانته، وهي تبتسم في وجهه وتقول إنه حزام فريد من نوعه ورثته عن جدها وكانت تحتفظ به إلى أن يكبر، وهو يناسبه اليوم كثيرا ويستطيع ارتداءه إن أعجبه، وللحزام بركة عجيبة أخبرها بها جدها، فهو يضغط على خصر كل كاذب ليضيق عليه أنفاسه إلى أن يقلع عن عادة الكذب السيئة، ضحك عمر بصوت عال وهو لا يصدق ما تقوله الوالدة، وقال: إنها مجرد خرافات تروى لا أساس لها من الصحة. وأضاف أنه سوف يرتدي الحزام ليبرهن لها على ذلك منذ الغد.
هذا ما كانت ترجوه الوالدة، فقد انطوت الحيلة على عمر، وارتدى في الصباح الحزام السحري، وعند رجوعه من المدرسة، لاحظت الأم أن نظارة عمر قد تكسرت، سألته عن السبب، قال وهو يتلعثم: لقد سقطت أرضا وارتطمت نظارتي بحجر كبير فكسرها. نظرت الأم في عينيه بعمق لتوصل إليه رسالة مفادها أنه يخفي عنها الحقيقة، أحس الابن بإحراج كبير وهو يحاول الإفلات بصعوبة من نظر الوالدة المعاتب له، لكن وجد نفسه لا يستطيع اليوم الفرار من هذه النظرات الحادة، وكأنه سجين لا يمكنه الهرب، وتضايق لهذا الإحساس الجارف الذي يعاتبه من داخله ويحاسبه، وبدأ يحس بضغط كبير في أنفاسه، بادرته الأم بسؤال آخر: وماذا عن محفظتك التي تمزق حزامها، هل اصطدمت هي الأخرى بالحجر؟
تلعثم عمر وهو يفكر في الجواب وقال: لا طبعا لقد تمزق الحزام من ثقل حمولة المحفظة.
ابتسمت الأم ابتسامة ساخرة وهي تعلم تماما كما يعلم ابنها أن محفظته ليست مثقلة، انزعج عمر كثيرا من جوابه المتسرع وهو يحاول تفادي نظرات الوالدة المعاتبة الساخرة، وكان وقعها كبيرا هذه المرة في نفسه التي ضاقت بين جنبيه، وبدأ يفكر في السبب لماذا هو اليوم مرتبك لهذه الدرجة؟! لطالما كذب على أمه وفر منها ونجى بفعلته، لكنه اليوم يحس أنه سجين كذبته، فما السبب يا ترى؟!
نظر إلى الحزام الذي يرتديه وهو يفكر، هل كل ما يحس به هو من كرامته التي حكتها له والدته وسخر منها بالأمس؟ لكن الحزام فعلا يضيق عليه أنفاسه ويخنقه، وبدأ يفكر بأن يخلعه ويلقيه بعيدا ليتمكن من الفرار.
لكن هيهات هيهات، لقد فات الأوان وحان وقت الحساب ولا مفر من العقاب؛ فإما أن يعترف ويندم على ما فات وإلا فسيبقى تحت رحمة الحزام السحري ونظرات العتاب التي تدفعه للاعتراف بالذنب، فالهرب لا يفيد المذنب هذه المرة. هذا ما فكر فيه عمر وهو يحاول الوصول لحل لمحنته، والتخلص من تداعيات كذبته، وليست البطولة اليوم في الفرار، لأن الحجة قائمة عليه، ودليل إدانته بين يديه، وكلامه هو عكس ما يبديه، وكذبه لن ينجيه.
انسكبت عبرات من عينيه وهو يقول بملء فيه: أنا أكذب، أنا مذنب يا أمي.
وما إن تلفظ بهذه الكلمات حتى شعر بارتياح تام وبدأ الضغط يخف تدريجيا، وتنفس الصعداء أخيرا، اعتذر وهو يذرف دموعا صادقة، لعلها تخفف عنه وتمحو ما بدر منه من كذب وبهتان، وتلقنه العبرة وتمنحه الأمان..
لقد أيقظ الحزام ضميره الذي بداخله، ونبهه بصوت غير مسموع، ليخبره بأن الكذب ليس منفذا ولا منقذا، ولا طريقا للخلاص، بل هو هاوية لا قرار لها. إنه طريق أوله مبسوط سهل، وآخره صعب ووعر؛ فيه لدغات النفس البائسة والضمير الذي استفاق متأخرا فوجد الجميع يترقبونه بقسوة ويلومونه وينهرونه عن هذه الغفلة، كان يظن أنه يخدع الجميع فإذا به اليوم ينخدع بحبل أوهن من خيط العنكبوت، يتشبث به كل تائه فيتقطع ليهوي به في طريق مجهول لا آخر له.
الكذب في أوله كرة ثلج صغيرة تكبر وهي تتدحرج لتقضي على كل أخضر جميل، تدوس كل القيم النبيلة من حياء وخجل وكبرياء وعفة لتحولها إلى جرأة وتعنت وغدر، وتكبر الكرة الصغيرة وهي تنحدر في طريق الكذب المنبسطة الهاوية فيصعب إزاحتها، وتتحول إلى عملاق يقطع عليك كل سبيل مستقيم، وينزوي بك في طرق متشعبة ملتوية مجهولة المصير.
لقد تيقن الصغير أخيرا أنه يقف على وهم كاذب يهوي به إلى الهلاك، وتشبث بأول خيط صادق يخرجه من الرذيلة؛ فالاعتراف بالخطأ فضيلة، وهو أول خطوة للتوبة النصوح إن كان متبوعا بالإقلاع عن الذنب والندم على ما فات وعدم العودة إليه.
قبلت الأم الرحيمة اعتذار ابنها عندما رأت منه الحيرة والندم، وأقلع عمر بعدها عن عادته السيئة، وكره الكذب كرها شديدا لأنه علم أن طريقه مسدود مردود على سالكه، وأحب الصدق حبا جما لأنه نجاة وفلاح لصاحبه.
هذه حيلة الأم لتأديب طفلها ليتوب ويعود إلى طريق الصلاح. فكم من مذنب كانت قسوة أبويه عليه وغلظتهما سبيلا إلى ارتمائه في أحضان الرذيلة، ففر من السلطة المتسلطة إلى الرفقة السيئة.
فحذار من العنف الذي إذا ما صاحب أمرا شانه، ولنلتجئ للرفق الذي ما تحلى به المربي إلا زانه. ولكل مشكلة طريقة حل سحرية كسحر حزامنا هذا.