الإشباع العاطفي ودوره في صناعة طفل سوي

مقدمة
تحتاج البذرة إلى العناية المستمرة والمواكبة والمراقبة المتوالية بغية النمو والإنتاج والعطاء الوافر من الثمار الحلوة والنبات العطر، إن كان هذا حال البذرة والنبتة فما بالك بالطفل الذي يعتبر روح المجتمع ومنبع السعادة في الحياة، فالطفل في أمس الحاجة الدائمة إلى العاطفة والحنان من أجل تحقيق التوازن النفسي والاستقامة السلوكية. ما هو الإشباع العاطفي؟ وما تأثيراته الإيجابية على شخصية وحياة الطفل؟ ما هي مسببات الحرمان العاطفي وتأثيراته السلبية؟ وما هي السبل الناجحة لإشباع الطفل عاطفيا؟
1. الإشباع العاطفي
1.1. تعريف
– الإشباع العاطفي ضرورة إنسانية نفسية، وهي رغبة وحاجة أساسية.
– الإشباع العاطفي غذاء روحي.
– الإشباع العاطفي للطفل تحقيق اكتفاء عاطفي وجداني في شخصيته ونفسيته وروحه، وذلك بإعطائه مجموعة من الشحنات الإيجابية والجرعات المملوءة بالحب والود والحنان عبر قنوات لفظية وأفعال حسية وغير حسية، تمكنه من الإحساس بالراحة والأمن والثقة، وتكسبه اتزانا نفسيا وسلوكيا ومعرفيا.
1.2. لماذا الإشباع العاطفي
تحتاج تنشئة جيل من الأطفال الأسوياء والمراهقين والراشدين الذين يتمتعون بصحة جسمية سليمة، وحالة نفسية متوازنة، واستقرار اجتماعي، وقدرة على الإنتاج والعطاء… كل هذا يحتاج إلى تعهد الطفل بالرعاية والعناية اللازمة في كل مراحل نموه؛ بداية من كونه جنينا في بطن أمه إلى المراحل المتقدمة من شبابه، وهذه العناية لا تقتصر فقط على ما هو مادي محض بقدر ما هي تتجاوزه إلى ما هو معنوي عاطفي بالدرجة الأولى، لما لإشباع حاجات الفرد العاطفية بالنسبة لنموه النفسي وبناء شخصيته من أهمية كبيرة.
تلعب الأم الدور الكبير والأساسي في الإشباع العاطفي للطفل، وتعتبر مرحلة الحمل ومرحلة الرضاعة أهم المحطات التي تجعل الارتباط بين الطفل وأمه فطريا قويا، وإن الرعاية الوالدية السليمة تساهم بشكل كبير في النمو السليم للطفل.
ومن أجل ذاك فالأم بالدرجة الأولى، ومعها الأب وباقي المتدخلين في التربية والتنشئة، تلزمهم الملاحظة الدقيقة لسلوكيات الطفل، ومراقبتها ودراستها دراسة منهجية وفي حالات مختلفة ومواقف متنوعة من مواقف الحياة اليومية، من أجل الوصول إلى المنهج والأسلوب والطريقة المناسبة والملائمة في عملية التربية والمواكبة، جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْؤولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) (1).
وعلى غرار دور الأبوين في تربية وتنشئة الأطفال تعتبر المدرسة مكونا أساسيا في هذه التنشئة، لذلك يدعو الدكتور عبد الله بن صالح القحطاني إلى “العمل على إنتاج مناهج تربوية ملائمة لمرحلة نمو التلميذ وقدراته وحاجاته” (2)، وفي هذا الصدد؛ بإمكان الوالدين والأطر التربوية الاعتماد على نظام منتسوري لتربية الأطفال وتعليمهم، خاصة فيما يتعلق بالتدريب على الحواس بغية اكتشاف المهارات الإدراكية لديهم؛ “إذ ركزت هذه النظرية على النمو الطبيعي للأطفال بشكل عام، ومن خلال الطريقة التي استعملتها يقدم المعلم لكل تلميذ مجموعة من الأدوات اللازمة، ويتركه على حريته في طريقة استعمالها، وفي نفس الوقت يراقبه ليرى إذا كان رد الفعل عنده مناسبا، فإذا لم يكن مناسبا فإن الأستاذ حينها يتدخل فيبدل المواد بمواد مختلفة، والتي قد يقابلها الطفل بالرضى فتكون مناسبة. وهناك أجهزة تستعمل لبعض أنواع التعليم، والتي تنتسب بدورها إلى ‘فترات الحساسية’؛ وهي مراحل حياة الطفل البيولوجية والنمو العقلي، وذلك عندما يفترض أنه أصبح يتجاوب مع بعض التجارب والخبرات” (3). ومن بين المهارات التي تساهم في التنشئة السليمة: التدرب على التخطيط الاستراتيجي منذ الصغر، على سبيل المثال نذكر وضع برنامج يومي بهدف تنظيم الوقت.
يعتبر الطفل نعمة ومنة وعطاء من الله عز وجل، وهو كذلك أمانة يستودعها المولى الكريم لدى الوالدين والأولياء، وهم فلذات أكبادهم التي قال عنها الشاعر العربي:
وإنمــا أولادنـــــــــا بيننا ** أكبادنا تمشي على الأرض
لو هبت الريح على بعضهم ** لامتنعت عيني عن الغمض
لذا وجب الحرص والحفاظ على الطفل كأمانة، والاعتناء به بالإحسان وحسن المعاملة، ومنحه مختلف ينابيع الود والحب اللامشروط، أو بمعنى آخر؛ الحب غير المتوقف على مقابل لتقديم الدعم المعنوي الذي يتجلى في قول كلمات حنونة والعناق والدعابة والابتسامة وغيرها.. وفي الجهة المقابلة تجنب الشدة والغلظة والتسلط على الطفل، وهنا نورد كلاما لابن خلدون يقول فيه: “من كان رباه العسف والقهر، حمله ذلك على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفًا من انبساط الأيدي بالقهر ذلك علمًا عليه، وعلمه المكر والخديعة وصارت له هذه العادة خلقًا وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه، وصار عيالًا على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، فينبغي للمعلم في متعلمه والوالد في والده ألا يستبد عليهما في التأديب” (4).
2. التعلق – الحرمان العاطفي
1.2. تعريف التعلق
– التعلق هو الارتباط الشديد والمفرط بشخص أو شيء أو مكان … وذلك من أجل كسب المزيد من الأمن والثقة، وفي أغلب الحالات يكون حالة مرضيا.
– التعلق المرضي سجن وأسر وصناعة حواجز نفسية وهمية.
– التعلق العاطفي عند الطفل هو ارتباطه الشديد والحماسي بوالديه أو بأحد من محيطه.
– التعلق حسب علماء النفس “الرباط العاطفي بين الأم والطفل”، وهنا لابد من الإشارة لما نسميه بنظرية التعلق Attachment Theory المرتبطة باسم جون بولبي John Bowlby.
2.2. تعريف الحرمان العاطفي
– هو غياب وفقدان المشاعر والحاجات والأحاسيس الوجدانية النابعة من القلب.
– هو معاناة نفسية وجدانية وروحية.
– حسب علم النفس “الحرمان هو غياب أو نقص الطاقات البيولوجية أو النفسية الضرورية للتطور المتناسق والمنسجم للإنسان أو الحيوان، وهناك عدة أنواع” (5).
3.2. بعض أسباب الحرمان العاطفي
– غياب الوالدين عن الطفل سواء بسبب وفاتهما أو انشغالهما…
– الفقر العاطفي عند الأبوين والمحيط، كما يقال: فاقد الشيء لا يعطيه.
– المشاكل الأسرية والمشاكل الاجتماعية؛ مثل الطلاق، والفقر، والزواج في سن مبكر، وغياب القيم الأخلاقية والعادات النبيلة.. وبها تغيب المشاعر الإيجابية والعاطفة سواء بين الزوجين أو بينهما وبين الأبناء…
– الجهل وغياب الدور التوعوي للجمعيات ودور الشباب وغيرها من مؤسسات الدولة و المجتمع المدني التي يجب أن تعتنى بالأسرة والطفل، من خلال القيام بحملات تحسيسية، والبرامج الإعلامية، والأنشطة التربوية التي تكون غايتها زرع روح المحبة والود الغائب في محيطهم الأسري.
وصدق أحمد شوقي عندما قال:
ليس اليتيم من انتهى أبواه من ** هم الحياة وخلفاه ذليـــلا
إن اليتيم هو الذي تلقــــى له ** أما تخلت أو أبا مشغولا
4.2. نتائج الحرمان العاطفي
يولد الحرمان العاطفي عند الطفل عدة اضطرابات نفسية واختلالات معرفية وسلوكية، مثل: العزلة والاكتئاب والإحباط والخوف المرضي والعجز العقلي والمعرفي.. وغير ذلك من المظاهر التي تقوده عندما يكبر إلى تقمص سلوكيات غير أخلاقية أو عدوانية إجرامية؛ كالانتحار واغتصاب الأطفال وتعاطي المخدرات والسرقة وإنشاء علاقات سيئة…
“إن هذه الاتجاهات التي يكونها الأطفال في صغرهم، وما يصاحبها من شعور بالكراهية، توجه في المستقبل نحو المجتمع بصفه عامة، كما أن الكثير من جرائم الأحداث يرجع في أصله إلى كراهية الأطفال للسلطة” (6).
3. بعض التوصيات في الإشباع العاطفي للطفل
– الاعتناء بنمو شخصية الطفل بكافة أبعادها؛ الجسمية والعقلية والعاطفية والانفعالية والاجتماعية.
– الاستماع والتكلم مع الطفل في أحايين كثيرة.
– تزويد الطفل بمواد الألعاب وفقا لمهارته ورغبته.
– اكتشاف هوايات الطفل ومهاراته وتوظيفها بغية تحقيق توازنه النفسي والعاطفي.
– التربية الجنسية المبنية على التواصل والتوعية لتفادي الوقوع ضحية للأفعال الشنيعة الحديثة.
– ربط الطفل بالله وتلقينه التعاليم والقيم الإسلامية النبيلة؛ عبر تعليمه القرآن والصلاة وحثه على حب الخير والإحسان بكل معانيه، مع تحفيزه بالهدايا حتى وإن كانت رمزية، فالمهم هو التجديد في العلاقة.
– توظيف قوة الكلمة؛ مثل مناداته بألقاب إيجابية، مثل: البطل، القوي، الشجاع، الفنان، المجتهد… بهدف التوصل إلى تأثيرها الإيجابي حول نفسية الطفل. إضافة إلى تعديل السلوك باستخدام التعزيز الإيجابي والسلبي.
– تقبل عيوب طفلك وحاول أن تقومها بشكل سليم من حيث عدم مقارنته بالغير، الأمر الذي يولد الكراهية والحقد، بل ينبغي تعويده على إقامة علاقات إيجابية مع الآخرين، مما يساعد على تجنب التمركز حول الذات.. يقول الغزالي: “ولا تكثر القول عليه بالعتاب في كل حين، فإنه يهون عليه سماع الملامة وركوب القبائح، ويسقط وقع الكلام من قلبه، وليكن الأب حافظًا هيبته عند الكلام معه فلا يوبخه إلا أحيانًا، والأم تخوفه بالأدب وتزجره عن القبائح” (7).
– الاحتضان بمعناه التربوي الشامل، والذي لا ينحصر حول إشباع الطفل لحاجاته المادية فقط، بل يكمن أيضا في الإشباع العاطفي الذي يعد ركيزة أساسية في حياته، حيث يعبر عنه عبر استعمال أساليب يملؤها الود والعناق والقبل. “قَبَّلَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الحَسَنَ بنَ عَلِيٍّ وعِنْدَهُ الأقْرَعُ بنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا، فَقَالَ الأقْرَعُ: إنَّ لي عَشَرَةً مِنَ الوَلَدِ ما قَبَّلْتُ منهمْ أحَدًا، فَنَظَرَ إلَيْهِ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ثُمَّ قَالَ: مَن لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ” (صحيح البخاري، 5997).
– تعويد الطفل على الاعتماد على نفسه منذ الطفولة، كما يقال “التعليم في الصغر كالنقش على الحجر”، حتى يتجنب التعلق بمعناه السلبي، وهذا يتجلى في تحفيزه بالاهتمام بأعمال المنزل سواء فيما يتعلق بترتيب الغرفة، أو إنجاز الأعمال اليدوية.. كما أن التواصل المتبادل بين الأم وطفلها منذ مرحلة الحمل يساهم في تنمية اللغة لدى الطفل، مما يلعب دورا فعالا في التعبير عن مشاعرهم وأحاسيسهم بكفاءة أكبر، ومساعدة الطفل في الوصول إلى مرحلة النضج الانفعالي.
– الاهتمام بالمجال الانفعالي في جميع مراحل نمو الطفل، حيت يتميز بألوان متنوعة؛ كالحدة والمبالغة والغيرة والغضب والحزن في بعض الأحيان، أو الحب، والسرور في أحيان أخرى.. لذلك لا يجب كبح الانفعالات حتى لا يحدث خلل نفسي سلوكي.
– الدعاء ثم الدعاء؛ فهو دواء لكل داء. وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم (8).
خاتمة
يقول هاري هارلو: “لا يعيش الإنسان بالحليب وحده، فالحبّ عاطفة لا تمنحها زجاجة حليب مجرّدة من العواطف”، من هنا يتضح بأن الإشباع العاطفي بين الأم وابنها لا يتجسد فقط بروي الكلمات أو ممارسة سلوكيات روتينية، بل يفوق ذاك وذاك… إذ لا يتحقق إلا بالتواصل الودي بين الطفل ووالديه وباقي أفراد العائلة والمجتمع، وبالدرجة الأولى بالاتصال الفطري المتوالي للطفل بأمه؛ جنينا في بطنها ينمو، فرضيعا من صدرها الدافئ يرتوي، ثم غلاما بين أحضان جنتها يتربى.. بحبها المتفاني في أبهى صوره؛ من عناق وكلمات تكسوها أنغام لحن رقيقة، فالأطفال عمارة البيت المبني على أساس المودة والرحمة.
المراجع
[1] رواه الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
[2] حسام أحمد، محمد يوسف، عبد الله بن صالح القحطاني (2017 م _1437 ه)، علم نفس النمو، ط1، ص 102، 103).
[3] واطسن روبورت، وهنرلي كلاين ليندجرين، من تقديم فرج أحمد فرج (2004): سيكولوجية الطفل والمراهقة، ط 1، مكتبة مدبولي، القاهرة، ص 31.
[4] مقدمة بن خلدون، ص 540.
[5] LA ROUSSE, 1998, PP 14.28.
[6] فهمي مصطفى، مجالات علم النفس، م ج 1، القاهرة، مكتبة مصر، (د ن)، ص 197م.
[7] إحياء علوم الدين، 3/70.
[8] سورة آل عمران، الآية 36.