توبة المَلُولَة (قصة قصيرة)

نهضت صفاء، البنت المتكاسلة، من فراشها متثاقلة وهي تلقي نظرة على شباك غرفتها الصغيرة بالطابق العلوي من المنزل، وكانت الأمطار تتهاطل بغزارة، وتسمع طقطقة النوافذ من قريب، فالجو عاصف والشتاء على الأبواب تنذر بيوم عابس بالنسبة لصفاء التي لم تكن تحب قضاء عطلة نهاية الأسبوع في المنزل .
إنها بنت ملولة ومتقلبة المزاج؛ سرعان ما يضيق صدرها لأتفه الأسباب وترغب في تغيير الأجواء، ولكنها لا تفكر في تغيير طبعها الملول، فما إن تبدأ في عمل ما حتى تشعر بالضجر فتفكر في تغييره ولا تتمه على أكمل وجه.
ألقت صفاء نظرة على غرفتها وهي تتفقدها بعين ساخطة، وتقول في نفسها: ما هذا اليوم المتجهم وهذه السماء الكئيبة، لن أتمكن من الخروج اليوم وسأضطر للبقاء في المنزل، تنتظرني أشغال البيت، عقوبة لا بد منها.
وكانت غرفة صفاء تشكو من قلة النظام والترتيب؛ فدولاب الملابس مبعثر، والكتب فوق المكتبة ما زالت مفتوحة وبعضها فوق بعض كركام الرمل، وأرضية الغرفة تحتاج لتنظيف وكنس.
نهضت البنت المسكينة من فراشها متثاقلة وهي لا تدري من أين تبدأ، شعرت بالجوع فهي لم تتناول وجبة العشاء البارحة، لقد حدث بينها وبين أمها نقاش حاد، فالأم في نظرها القاصر حادة الطباع ومنضبطة أكثر من اللازم، تريد أن تسلبها حريتها، وبختها على مائدة العشاء بسبب تقصيرها في دراستها، فنقطها المتدنية لا تبشر بالخير ، وإن استمر الحال على ما هو عليه فستحصل على رتبة غير مشرفة، انزعجت صفاء لملاحظات الوالدة وقامت من المائدة قبل أن تكمل وجبة العشاء، وكانت تعتبر أن الأم تبالغ في النصائح وتحرمها من حريتها، ردت بنبرة غاضبة: لقد مللت من التوجيهات، وأجد أنك لا تملين من إلقاء خطبك في كل مناسبة .
أيقنت صفاء أن أمها هذا الصباح سترغمها على إتمام أشغال البيت، ولا ملجأ لها للفرار إليه، فالجو عاصف والأمطار غزيرة، ولا يمكنها التجول في الخارج، فيا لها من ورطة.
انتبهت البنت الملولة واستيقظت من أحلام يقظتها وحديث نفسها على صوت الوالدة وهي تصعد الدرج وتناديها، فالساعة العاشرة صباحا .
تراجعت صفا ء خطوات للوراء بعد أن كانت تهم بالخروج من الغرفة، واتجهت نحو سريرها بسرعة وألقت بنفسها في مخدعها وهي تتظاهر بالنوم، دخلت الأم الغرفة وتقدمت نحو سرير ابنتها وهي تحاول إيقاظها بلطف هذه المرة، فهي رغم قسوتها في بعض الأحيان كانت تحن وتسامح وتتغافل عن أخطاء المدللة، قالت الأم بنبرة حانية: استيقظي يا صفاء لتناول وجبة الفطور فالوقت متأخر، لابد أنك جائعة لأنك لم تكملي عشاءك البارحة .
أجابت صفاء بنبرة متثاقلة وهي تتظاهر بالعياء: شكرا يا أمي أنا لا أستطيع القيام لأنني متعبة ولا أرغب في الأكل، أريد فقط أن أستريح فأنا أشعر بدوار حاد في رأسي .
وضعت الأم يدها على جبين صفاء وهي تتحسس حرارتها، لكن الملولة أشاحت بوجهها وهي تقول: أنا أحتاج للراحة والهدوء حتى أسترجع حيويتي، لا تقلقي علي .
ألقت الأم نظرة على غرفة ابنتها التي تنبئها بحالتها المزرية، فكلاهما يحتاج لإنعاش فوري .
فهمت صفاء ما تفكر به أمها فقالت بنبرة متأسفة على الحال: لا تقلقي سأرتب غرفتي عندما أصبح بخير.
علمت الأم أن صغيرتها تحتاج لدرس كي تتعلم منه الصدق والإخلاص في القول والفعل .فتظاهرت هي الأخرى أنها صدقت الكذبة، وغطت ابنتها جيدا وقبلتها على جبينها وهي تدعوها لترتاح ولا تغادر فراشها هذا اليوم، لأن الجو ماطر وحالتها تستدعي الراحة التامة حتى تستعيد نشاطها وحيويتها.
غادرت الأم الغرفة وسط ذهول ابنتها التي كانت تتوقع أن ينكشف أمرها وتجبرها الوالدة على الاستيقاظ وتناول وجبة الإفطار، هذا ما دار بخاطر البنت المسكينة لكنها الآن وقعت في شر تدبيرها، هي جائعة ولا تستطيع تناول وجبة الفطور ومعدتها الفارغة تلومها، ولقد سجنت نفسها بادعائها المرض في هذه الغرفة الكئيبة، فهي لا تستطيع حتى النهوض والاستمتاع بالأكل، وبدا لها الأمر أكثر مللا وكآبة، وبدأت تفكر كيف تخرج من هذه الورطة، لقد زادت الطين بلة ووقعت في شراك نفسها الكسولة، لم تعد تحتمل النوم، وأحست بأنها مسجونة وعليها أن تخلص نفسها بنفسها من هذه الأغلال التي تكبلها وتربطها في الفراش لتحرمها من نعمة الحركة والتجول، وحتى من نعمة الاستمتاع باللقمة الهنية.
كيف تخرج من هذه الورطة؟
لقد كانت محنة حقيقية بالنسبة لها لكن في طيها منحة ربانية ودرس لن تنساه طول حياتها، أحست بالندم وبغصة مريرة في حلقها وندمت على تهورها، امتلأت عيناها بالدموع وبدأت في البكاء الذي شعرت أنه يغسل صدرها ويفرج عنها كربتها، لأنه كان الشيء الوحيد الصادق، نعم لقد بكت من أعماق قلبها وهي تطلب من الله أن يشفيها من مرض نفسها، ويبدل حالها إلى أحسن. ما إن فرغت من البكاء المرير حتى شعرت وكأن يدا حانية تمسح على صدرها لتزيل عنه كل ضيق وحرج.
قررت النهوض وتوضأت وصلت ركعتين ودعت الله أن يعينها ويقويها على الطاعة، ويأخذ بيدها إلى الطريق المستقيم .
علمت صفاء علم اليقين أنها كانت مخطئة ومتهاونة، وفهمت أن حياتها هي فرصة للعمل والكسب للفوز بالقربات، وبأن الدنيا مستقر ومتاع إلى حين، وبأنها مزرعة الآخرة.