من إنسانيته: العفو والصفح

لكل زمن جهاده، ولكل جيل رواده، ولكل قرن مجدديه. والإمام عبد السلام ياسين رحمة الله عليه كان أحد هؤلاء الرجال الرواد، المجددين والمجاهدين.
نهل من العلوم ما استنار به عقله، ونال من شرف الوراثة النبوية ما أشعل في قلبه الشوق إلى ربه؛ فأسلمت الجوارح له القياد، وكان من فرسان هذا الزمان ومجدديه تربية وتنظيما وزحفا.
خصاله المميزة له عديدة، لكن رحمته وإنسانيته كان لها أثر ووقع كبير على من صاحبه من خلانه وقرابته والمومنين عامة، وخاصة على خصومه وأعدائه ومعارضيه…
فالإمام رحمه الله تعالى لم يكن ينشغل بالرد على الخصوم والأعداء، بل بلغت به الرحمة أن يدعو لهم.
لقد كالوا له من الشتائم والسباب ووصفوه بأبشع الصفات والنعوت، مع التحريض عليه… ما يذهب بحلم الحليم ولب اللبيب، لكنه ظل شامخا صامدا لا يكترث لذلك، ولا يدعو على أحد. أسوته وقدوته المصطفى صلى الله عليه وسلم. ثابت الفؤاد مبتسما، لا يزيد على قول: غفر الله لهم.
كان يحرص على سلامة وصفاء قلبه وقلوب المومنين والمومنات، ينصحهم بعدم الانشغال بالخلق عن الخالق، إلا إن بلغ السيل الزبى وبلغ الظلم مداه، فيسمح لهم بحق الرد من غير اعتداء. امتثالا لقوله تعالى: لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (سورة النساء، الآية 148).
كان متتبعا خطى الحبيب صلى الله عليه وسلم في الصبر والحلم على المخالفين والمعارضين والمعادين له… لا من باب المسكنة والدروشة الصوفية كما يحلو لبعضهم وصفه، ولكن حتى لا يحيد عن خط المنهاج النبوي الذي رسمه واتخذه حادي الطريق إلى المولى عز وجل.
كان حريصا على قلبه أن تكدره صغائر الأمور وسفسافها. يؤمن ببشريته ويعترف بضعفه وافتقاره لربه، ينفعل ويغضب، لكن ليس لنفسه، فقد كان يمسك بزمامها أن تنفلت. يلزم قلبه ذكر الله، تصفية وتزكية وتنويرا، لأنه رضي الله عنه، يعتبر القلب محل نظر الله سبحانه عز وجل، استنادا إلى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: “إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم” (رواه مسلم).
وكان يرى أن من تعظيم الله وإجلاله أن يكون محل نظره سبحانه عز وجل وهو قلب الإنسان طاهرا سليما منوَّرا، لا كدر فيه ولا خراب، ولا نكت سوداء من أثر الذنوب والمعاصي، وأعظم به من ذنب الإساءة والأذية لخلق الله عز وجل، وإن كان أذاهم وإساءتهم أسبق.
وإيمانا منه أن من أخلاق المحسنين الذين يحبهم الله: الْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ. كان كريم النفس، يوصي بنسيان الأذى ومسامحة الناس والتجاوز عن أخطائهم وعدم تذكيرهم بها.
يسعد برجوع المسيئين له إلى رشدهم، ويسعد أكثر عند انضمامهم إلى ركاب المومنين. لم يكن ممن يرجو السلامة لنفسه أنانية. بل كان يرجو من الله أن يعفو عن جميع الناس، وأن يكون في صحيفته محسنون كان لهم مرشدا وسببا في سلوك سبيل وطريق الحق وصراط الله المستقيم.