ذة. حمداوي: خصال التكافل والتعاون والتواد والتراحم.. تمثل جوهر النظرية المنهاجية

بمناسبة إحياء الذكرى الثامنة لرحيل الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى، والذي اتخذ له هذه السنة موضوعا: “البعد الإنساني في الفكر الإسلامي المعاصر: الإمام عبد السلام ياسين نموذجا”، أجرى موقع mouminate.net حوارا مع قيادية في الجماعة كان لها حظ وفير من مجالسة الإمام، هي الأستاذة حبيبة حمداوي، مسؤولة الهيئة العامة للعمل النسائي بجماعة العدل والإحسان.
في الحوار الآتي تحدثنا حمداوي عن بعض صور حضور هذا البعد عند الإمام تصورا وممارسة، خصوصا في شق التعامل مع المرأة، وكيف تحييه الهيئة العامة في عملها التنظيمي كمكون داخل الجماعة.
إليكم نص الحوار:
1- اخترتم في جماعة العدل والإحسان إحياء ذكرى رحيل الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله هذه السنة بمناقشة موضوع: حضور البعد الإنساني في فكره تصورا وممارسة، هل لك أن تذكري بعض العلامات التي وسمت المشروع في هذا الباب، على المستوى الفكري التصوري، خصوصا ما يتعلق بالمرأة؟
بسم الله الرحمن الرحيم. والصلاة والسلام على أشرف المرسلين؛ من بعثه الله رحمة للعالمين.
لقد اجتهد الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى أزيد من أربعة عقود في التنظير لمشروعه من خلال أزيد من أربعين كتابا؛ عالج فيها قضايا التربية والتنظيم والسياسة والاقتصاد والمرأة.. برؤية تجديدية، وعمل على تنزيله على أرض الواقع وتربية النساء والرجال عليه.
وفلسفة التغيير عنده رحمه الله تعالى تعتمد على محورية الإنسان، تغيير يدور حول الإنسان ويخدم غاية تحريره من كل عبودية ليدخل في العبودية لله عز وجل وحده لا شريك له، مؤكدا أن ذلك يتم من داخل الإنسان نفسه؛ من تربيته وتعليمه، من تغيير الأجيال، من تغيير أمهات صالحات، ومدرسة صالحة، لاكتساب المناعة ضد الانجراف نحو الثقافة الدوابية المنحصرة في الإنتاج والاستهلاك، يقول في كتاب مقدمات في المنهاج: “رسالتنا لأنفسنا وللإنسان أن يكون الله عز وجل غاية كل فرد من العباد، أن يكون ابتغاء رضاه، والسباق إلى مغفرته وجنته، والسير على مدارج الإيمان والإحسان لمعرفته، والوصول إليه والنظر إلى وجهه منطلق الإرادة”.
والمرأة في هذا المشروع معنية كما الرجل، وقضيتها احتلت مكانة بارزة في نظرية المنهاج النبوي، وقد أفر د لها رحمه الله حيزا مهما في مؤلفاته، أبرزها كتاب “تنوير المومنات” الذي يبرز من خلاله الانحرافات التربوية والفكرية والسياسية والفقهية التي عاقت مسيرتها في التحرر من الدونية والعبودية لغير الله تعالى، مؤكدا أن بناء مستقبل الأمة رهين بإخراج المرأة من الزاوية الضيقة والهامش إلى فضاء المشاركة المسؤولة، إخراجها من قعيدة البيت الأمية غير المسؤولة إلى صانعة المستقبل، مما يستلزم أن تقتحم عقبة التغيير الذاتي، منطلقة من جبهتها الأساسية: الأسرة، لتجعل منها مشتلا لتربية النشء، وصناعة أجيال تنمو في أمن واستقرار وتوازن، ومساهمة في بناء وتعبئة الأمة، ومشاركة في جميع شؤونها وقضاياها الاجتماعية والسياسية والقانونية وغيرها.
ويؤكد رحمه الله تعالى في كتاب “مقدمات في المنهاج”: “اقتحام العقبة إذن تحرك إرادي تتعرض له العقبة فتمانعه ويغالبها حتى يتم الاقتحام، حركة الفرد المؤمن في سلوكه إلى الله عز وجل وحركة الجماعة المجاهدة في حركتها التغييرية وحركة الأمة في مسيرتها التاريخية“.
2- على مستوى الممارسة هل عايشتم بعض المواقف الدالة على هذا البعد خلال مجالستكم للإمام، في مستوياته المختلفة؛ سواء معكم كأعضاء أو مع سائر المسلمين والناس أجمعين؟
كان رحمه الله تعالى قامة عالية وشامة بارزة في حسن الخلق وجميل الأوصاف، وهو القائل: “الفاضل يرى الفضل حيث الفضل”، فيخاطب في الإنسان مروءته وينعته بجميل الأوصاف مهما اختلف معه، مذكرا أن الفطرة الإنسانية هي التربة الأولى التي أودع الله فيها القابلية الأصلية، والوازع الأساس لتلقي الفضائل، فهي موطن الثقة بالله تعالى.
يقول: “إننا لن نكون مسلمين إن أبطلنا في حساب الرجولة خلق الرجل والمرأة وعقلهما ومروءتهما أي إنسانيتهما بما تعارفت عليه الإنسانية من شيم فاضلة، إن البكائين في المساجد العاكفين على التلاوة والذكر لن يكونوا هم أهل النور والربانية إن لم يكن سلوكهم العملي مع الناس، الأقرب فالأقرب سلوكا أخلاقيا مروئيا يزنون بميزان العقل واللياقة والكفاءة والجدوى وحسن الأداء كل أعمالهم“ (كتاب سنة الله).
في هذا الباب أستدعي موقفا فريدا مع امرأة من علية القوم، نهجت مذهب اللائكية في التجرد من الدين ومناهضته والاقتداء بالنموذج الغربي بحثا عن مساواة مطلقة وتحرر من كل ما تعتبرها قيودا، أرهقها بؤس الدنيا وحاسبتها الفطرة فأخذت تبحث عن مسلك للتوبة، فطرقت بابه تلتمس يد العون التي تنتشلها من براثن المعصية والبعد عن الله، فاستقبلها رفقة زوجته رحمة الله عليها بوجه باش وكلمة مبشرة مشجعة ورحابة صدر مخاطبا فيها الهمة السامقة التي جعلتها تستفيق من غفلتها وتبحث عن الله، سألها عن اسمها وربطه باسم صحابية جليلة وهبها الله تعالى العلم والحلم وكانت نموذجا راقيا في الاستجابة لله ورسوله، منبها إياها أن لكل نصيب من اسمه، فسعدت المرأة بأبوته الحانية ورحمته ورفقه، وبكت وأبكت، وما كانت تتصور يوما أن تجلس بين يدي شيخ يأخذ بيدها إلى بر الأمان دون عتاب ولا حساب. وبعدها ألقى مسؤولية احتضانها علينا، بقوله فيما معناه “هذا دوركن في القطاع ولمثل هؤلاء تقع مسؤوليتكن، ولم نجبل على غلق أبوابنا ونركن إلى دفء صحبتنا، فتلك رهبانية ما أنزل الله بها من سلطان”.
هكذا كان رحمه الله بحيث لا يفوت الفرص المتاحة، يخاطبك كخبير بقضايا المجتمع والتاريخ والتنمية والسياسة.. وكعارف بالله؛ ينتقل بك إلى معنى وجودك ومصيرك وإيمانك ويقينك في الله تعالى إيمانا منه بإعادة الاعتبار للفطرة الإنسانية، ويوقظ فيك الإحساس العميق والمسؤولية الكاملة عن اختياراتك مصداقا لقوله جل جلاله “إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا” [الأحزاب: 72].
3- باستحضار مسؤوليتك؛ كيف تقيمين حضور هذا البعد على مستوى عمل الهيئة؟
تتصدى المؤسسة إلى عمل دؤوب وطويل النفس يسعى لتربية المرأة على القيم الإنسانية الحقيقية التي لا تقبل أي نوع من أنواع الاستبداد، تلك التربية المتوازنة الشاملة التي تحدث عنها الإمام بقوله “لتربى المؤمنات التربية الكاملة المتكاملة عقلا وقلبا وخلقا، قلبا قبل كل شيء” (كتاب تنوير المومنات).
هو عمل يروم إحياء سنة الحبيب المصطفى عليه أزكى الصلاة والسلام، الذي استطاع بتربيته الرحيمة أن يوقظ نوازع الفطرة السليمة في أصحابه، فأصبحت مشاعر الأخوة والمساواة ملازمة لهم، عن أبي يوسف عبد الله بن سلام رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام”.
هكذا تم التأسيس لعلاقات مبنية على التكافل والتعاون والتواد والتراحم، تلك الخصال التي تمثل جوهر النظرية المنهاجية التي تسعى الهيئة وباقي المكونات الأخرى تبنيها في مشاريعها العملية والدعوية، والتي تندرج في قولة للإمام في كتاب “الإسلام والحداثة”: “نمد لكم اليد، أيتها النفوس المتآخية في الإنسانية، مهما كانت اعتقاداتكم ما دامت الرحمة الإنسانية والمحبة لبني البشر تنعش قلوبكم وأعمالكم، إننا سنبقى دائما على استعداد، وكلنا عزم وثقة في رحمة الله عز وجل، لمد اليد إلى الرجال والنساء ذوي الإرادة الطيبة والاستعداد النبيل، سنبقى كذلك حتى نعقد ميثاق عدم الاعتداء على الإنسان وكرامة الإنسان، ميثاق رفق شامل بالإنسان وبأمن الإنسان، ميثاق رفق فعال ونشيط وباذل، إننا كذلك حتى نقضي على الإقصاء والحقد العنصري واحتقار خلق الله عز وجل، والعنف على الإنسان والوسط الحيوي للإنسان“.
ما أحوجنا في زمننا هذا أن نقف عند هذا الفكر الإنساني لاستيعابه وتمثله، لأنه يحمل دواء لمجتمعات الكراهية، التي يتم فيها الاعتداء على الإنسان وقيمه العليا التي بها يتميز عن باقي المخلوقات، “ولقد كرمنا بني ٱدم”، هذه المجتمعات التي تسعى لتخريب كل ما هو مشترك بين بني الإنسان، وتروج للأفكار العنصرية المقيتة المتطرفة، هذا الداء القاتل يعالجه الفكر الإنساني المرتبط بالسماء والذي ينشد إقامة مجتمع الإخاء البشري.