دة. وفاء توفيق | حرية المرأة في الفكر المنهاجي

أقرت الدكتورة وفاء توفيق، في مداخلتها المعنونة بـ”حرية المرأة في الفكر المنهاجي” التي شاركت بها في المؤتمر الدولي الثالث الذي تجري أشغاله يومه السبت وغدا الأحد 19 و20 دجنبر حول “البعد الإنساني في الفكر الإسلامي المعاصر: الإمام عبد السلام ياسين نموذجا”، أن “الله تعالى أكرم المرأة بكامل حقوقها ومنها حق الحرية في أبرز تجلياتها؛ بنقلها من عرف الوأد وواقع اللاشيئية.. إلى إنسان كامل الإنسانية والكرامة مثلها مثل أخيها الرجل”، حرية تتعالى أصوات في العالم الإسلامي بتمكين المرأة منها لأنها مسلوبة، في حين يتغنى الحداثيون اللائكيون بفوز المرأة في ملّتهم بأكبر حظ منها. لذلك ركزت الأستاذة توفيق بحثها حول مقاربة الوضعين من خلال بسط فكر الإمام المرشد عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى التجديدي لقيمة حرية المرأة.
وقدمت الباحثة لموضوعها بالإقرار بأن “رسالة الله تعالى الخاتمة إلى الإنسان هي مشروع نظري عملي متكامل لتحريره من كل أنواع العبوديات لغير الله تعالى”. ولإبراز حظ المرأة من التمتع بهذه القيمة الكونية استقرأت في محور أول وضعية المرأة عبر التاريخ البشري.
وكشفت بأن المرأة، عبر تاريخ البشرية، كانت وما تزال “مستضعفة المستضعفين ومظلومة المظلومين” باستثناء العصر النبوي الشريف وفترة الخلافة الراشدة؛ حيث أكد الفكر اليوناني دونية المرأة مقارنة مع الرجل، “وهو ما كان يصرح به ويؤكده العديد من الفلاسفة والأدباء ورجال الفكر والدين”، واعتبرتها الأدبيات اليهوديّة والمسيحية – المحرفة – أصل الشر كله؛ فهي المسئولة عن الخطيئة البشرية الأولى وخروج آدم عليه السلام من الجنة، ومن ثم تستحق كل الأحكام المشينة الواردة بخصوصها في الشريعتين، ومن ذلك أنها تباع وتشترى، وأنها تنجس، وأنها ما خُلِقت لخدمة الرجل فحسب..
هذا التشابك بين رواسب الفكر اليوناني والروماني مع التعاليم المحرفة لليهودية والمسيحية كان سببا في تجرع المرأة عبر التاريخ البشري صنوف الاضطهاد النفسي وألوان الاستعباد الجسدي. تقول توفيق، وتضيف: هي نفس المرارة التي تجرعتها المرأة العربية قبل مجيء الإسلام؛ مهانة واحتقار ودونية واستعباد.
ثم جاءت رسالة الله بدين الإسلام، تسترسل المتحدثة موضحة، “الذي يُعد تحرير الإنسان، كل إنسان، من كل أنواع العبوديات أعظم غايات نزوله؛ فكان جوهر ومرامي الخطاب الإلهي إخراج الرجل والمرأة من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد… فتبوأت بذلك المرأة زمن الوحي المكانة الطبيعية التي تستحقها كإنسان، جنسه مكمل للجنس الثاني (الرجل).. فنفى الله سبحانه عن الرجال والنساء التفاضل إلا بالتقوى؛ فلا امتياز لذكر بذكورته، ولا يُبخس حق امرأة لأنوثتها”.
هذه المكانة اعتبرتها المتحدثة “طفرة مفصلية في تاريخ النساء، بل في تاريخ البشرية، تلك التي جنتها المرأة من تشريع رب العالمين، الذي حولها من اللاشيء.. إلى إنسان كامل الآدمية؛ أدركت معنى عبوديتها لله تعالى وحده ووعت حقيقة وجودها، فأبلت النساء البلاء الحسن في أداء وظائفهن في انسجام مع فطرتهن وفي حدود قدراتهن وبتوافق مع خصائصهن”.
غير أن “تلك النقلة الجذرية والجوهرية والرفيعة لم تدم طويلا، فسرعان ما انحطت المرأة – خلال مرحلة الملك العاض والجبري – ورجعت القهقرى؛ فسلبت إرادتها وخمدت همتها وخرس صوتها وانحبس مجال حركتها، فأمست ‘كمًّا مُهملا صامتا محجورا عليه وراء جدران الحريم’” كما وصفها الإمام رحمه الله تعالى. فكان نصيب المرأة من الظلم والبؤس والتهميش مضاعفا عما كان يعانيه الرجل في هذا الواقع المستبد، لتتجرع “بالإضافة إلى كل المآسي المذكورة آنفا ظلم الرجل وهبوط رعايته لها بهبوط الرعاية السياسية له ولها…”.
ثم جاء عهد الاستعمار واللائكية والحداثة والإباحية “واقتحمت ديارنا رياح التغريب والإباحية.. مقنعة المرأة أن المدخل الأوحد إلى – نيل حريتها – هو التنكر للدين وأحكامه، والتمرد على المجتمع الذكوري الذي قهر المرأة المسلمة فعلا”. دعوات براقة خادعة استجاب لها “العديد من “المناضلين” و”المناضلات” المبهورين بأضواء وقوة وعلوم الحضارة الغربية المادية”، تقر توفيق، وتزيد: “فحملوا لواء تلك الدعوات البراقة الخادعة، وتمردوا على غيره، لينكشف أن جوهر حريتهم المزعومة هو امتلاك المرأة حرية الجسد وحقها المطلق في التصرف فيه… لتمسي المرأة في ظل “حضارتهم” دمية معبودة أو عاملة كادحة أو أداة رخيصة تعبث بها حضارة الاستهلاك والثورة الرقمية؛ صورة شبه عارية”.
وفي المحور الثاني الموسوم بـ”حرية المرأة في الفكر المنهاجي؛ الرؤية والخصائص” أكدت الباحثة في المقاصد الشرعية وقضايا المرأة أن ” أصل الكرامة الإنسانية ثابت في ديننا لكل إنسان باعتبار عموم وشمول التكريم الإلهي لكل أفراد هذا الإنسان”، حيث “تحرير رقبة الإنسان أي إنسان من أعظم القربات إلى الله تعالى”، ومفهوم فك الرقبة يتخذ عند الإمام معنى أعمق وأشمل وأوسع من تحرير العبيد، بل إن “أول حق للإنسان أن يعرف مغزى حياته ووجود خالقه، أما الحقوق الأخرى فتدور كلها حول هذا المحور”.
“بناء على ذلك، فإن الفكر المنهاجي عند الأستاذ ياسين يعتبر أن أول وأولى محدد لحرية المرأة (والرجل معا)، هو تحرير عقلها وقلبها وروحها لمعرفة خالقها وفهم معنى وجودها واليقين بالبعث والاستعداد للحياة الأخرى” توضح الدكتورة توفيق، وتردف “أُمّ حريات المرأة (والرجل كذلك) وأجمعها هي تحرير الإنسان من كل أنواع المعبودات ليخلص العبودية لله تعالى؛ فالمؤمنة يغمر قلبها وتسمو روحها بالثقة في خالقها وفي نفسها أن جعلها إنسانا مكرما مثلها مثل الرجل، متساوية معه في الآدمية، معنية بالخطاب الإلهي كما يعنى الرجل”، و”إن اكتساب المؤمنة هذه الحرية الأصل سيحفزها لا محالة على استكمال نيل باقي حرياتها الفرعية التي سلبت منها عبر تاريخ بلائها ومظلوميتها”.
وفي المحور الثالث بسطت توفيق مكملات حرية المرأة في فكر الإمام ياسين المنهاجي، الذي يرى أن “استرجاع المرأة المسلمة حريتها الحقيقية والكاملة، واستردادها مكانتها الريادية التي مكنها منها الشارع الحكيم… لن يكون إلا بالوقوف على الأسباب الحقيقية والجوهرية التي كانت وراء انحدارها دركا دون درك، والتي يمكن اختزالها في معولين اثنين قاصمين لظهر الأمة ومعه بشكل أفظع ظهر المرأة، وهما الانكسار التاريخي والاستعمار الغربي”.
وأن تحرير المرأة من مخلفات الانكسار التاريخي الذي تعرضت له الأمة “بهبوط الرعاية السياسية” و”تقليص مجال الفقه” و”شيوع الفساد الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي” و”بروز ذهنيات وأنانيات ذكورية مستعلية سلطوية مهمشة للمرأة باخسة حقوقها مخالفة للنموذج النبوي الراقي في تعامله مع المرأة”، كفيل بـ”استرجاع المرأة ما فقدته من تمام إنسانيتها، وكمال كرامتها، ومجمل حقوقها”.
كما دعت الباحثة إلى ضرورة “فتح باب الاجتهاد في شؤون المرأة وقضاياها القديمة منها والجديدة، والنأي عن السطحية والتجزيء والحرفية في فهم النصوص الخاصة بها، والتي تجني على حقوق المرأة أيما جناية، وتبخسها حريتها وكرامتها أيما تبخيس”، مما سيؤدي حتما إلى: “تصحيح رؤية الرجل”، و”تحرير المرأة من ترسبات الشعور بالدونية والعجز”، و”مشاركة المؤمنة في مؤسسة الاجتهاد، بعد تحصيل شروطه”، و”تحرير إرادة المرأة من التبعية المطلقة للرجل”، وتحريرها “من ترسبات الذهنيات والتقاليد والأعراف الفاسدة” و”من الجهل”. كما دعت إلى “تحرير المرأة من العجز والتبعية الاقتصادية للرجل”، وهو ما من شأنه أن يحقق لها الأمان النفسي.
ودعت المسلمةَ أيضا إلى التحرر من تداعيات الاستعمار الغربي، فما هي إلا حضارة “غنية الوسائل، عارية من كل معنى؟” كما يقول الإمام، وذلك بـ”تحرير المرأة من تأثير وأثر كل الإيديولوجيات الإباحية” و”تحريرها من الشغل الفاتن عن وظيفتها الأساسية باعتبار أن الحضارة الحداثية جعلتها تنفق طاقتها في «الإنتاج المادي» و«صناعة الأدوات» ولا تنفقها في «صناعة الإنسانية»”، وتحريرها “من التشوهات الفطرية”، و”من “المنطق” الدوابي المنكر للبعث والدائر حول الحياة الدنيا”.