توبة وأوبة

الحديث عن التوبة حديث يحمل من الفرح ما يسكن أعماقك. أجل، “لله أفرح بتوبة عبده”. كيف يفرح ربك ولا تفرح أنت؟ وقد طويت صفحات من الماضي إلى غير رجعة لتبدأ مشوارك مع الله وقد تحققت فيك شروط هي بنود عقد بينك وبين مولاك، تزينه آية عظيمة هي بملء الدنيا ذهبا بل أغلى إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين؛ هذه المحبة التي تفتَّتَتْ دونها الأكباد.
تحدث ربك بالندم عما مزق ثوب حيائك يوما، تعيد نسج الحكاية والدموع تنهمر منك شلالا، (كيف تاهت مني البوصلة وقد كنت أظن مني صلابة وثباتا؟). مسكين أنت. نسبت الأمر لنفسك فغلبتك، ولو نسبت ثباتك لربك لمدك بالمزيد، غير أن التمحيص سنة في حق المؤمنين… ذاك الستر الذي هتكته بعيدا عن أنظار الناس وتظاهرت بمسحة من صلاح تخفي فيها عمق ضياعك… كل هذا كان تحت نظر الله. لم تكن تخجل عندما وقعت مع الشيطان أول خطوات الهدم. نفث في أذنك وزين لك التجرد من أخلاق هي كل رأسمالك… تساهلت في الصلاة فضيعتها، رفعت صوتا خشنا تلكؤا في خدمة والديك، جرحت يتيما، ضيعت حقا، خنت ميثاقا، أخلفت وعدا، أطمعت غيرك بفرحة كبيرة ثم سحبتها منه تجاهلا للشرخ الذي أتقنت إحداثه في قلبه، خنقت أنفاسا عجزت أن تصارحك ماذا فعلت كلماتك ومعها نظراتك الشزراء بقلوبهم، أوجعتهم وأثخنت جراحهم، كم طاوعتك سبابتك أن تخترق جدار الليل لتتصيد الوهم في متعة مزيفة وراء شاشة صارت لصيقة عينيك. كم خططت وحفرت الحفر ونصبت الفخاخ وضيعت الحقوق، وقهرت النفوس بسطوة في يدك. عجبا لك! كيف غفلت عن القهار وكيف غفلت عن الرقيب وكيف استمتعت بظلمك؟ والألسن تبيت تستدر رحمة الله وتتوسل إليه أن فوضنا إليك الأمر فخذ لنا منه بحقنا واشف صدورنا المكلومة بعنفوان غفلته.
مسكين أنت، ظننت العمر قبضةَ يدِك ومتع الحياة مطوية بيمينك وإذا أردت للشيء أن تقول له كن فيكون. مسكين وأنت تتفقد الفراغ الجاثم على قلبك البارد. مسكين أنت والناس تفر منك فرار المجذوم تعاف وتخاف أن تمد لك يد العتق من الغرق.
ويشاء ربك المتفضل عليك بعظيم نعمه وجميل ستره أن تفيق من غفلتك، أن تنزاح من صدرك غمة الخطيئة، وأن تحن جبهتك إلى معانقة التراب، رباه (خذ بيدي ولا تردني إليّ). بين يدي مولاك تسكن روحك التي طالما لفها القلق والشتات، يشتد بها الظمأ فتلتمس الرواء، تنحني لتكسر شوكة نفسك الأمارة وتخرص فحيحها، تدنو من الأرض نادما على طول غياب، تتنسم رائحة العودة وفيك من المشاعر ما تضيق بوصفه الحروف.. تدنو لترتفع.. تسجد فتسقط منك كل تلك الصور وتلك الآهات والعذابات وتسيح دموع تجلو صدأ قلبك، تغمض عينيك كأنك تتخلص من صفحات مظلمة… تنادي… يا الله يا الله يا الله…. تبت إليك فلا تردني إليّ… يا الله ردني إليك ردا جميلا… ترد المظالم إلى أهلها وقد تخففت صحيفتك من أوزارٍ بوزن الجبال، ثم يعلن قلبك طي تاريخ لن يروى إلا على عتبات سجادتك. لكنه ينتهي بقصة حب. حب يشتد معه الخفق وقد بدل الله سيئاتك حسنات. حب يلغي كل العلائق إلا أن تكون فيه. إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين.