الزهد في التصور المنهاجي

ارتبط موضوع الزهد في الثقافة الإسلامية بفئة خاصة من الناس، تخلت طواعية عن متاع الحياة الدنيا وزخرفها، واختلت بنفسها هروبا بدينها أن تفسده مغرياتها، وعاشت حياة بسيطة هادئة بعيدة عن هرج الحياة ومرجها، وقد سلكوا في ذلك مسلكا لم يفرضه الله عليهم؛ فانقطعوا عن الدنيا بالكلية ورغبوا في الآخرة، إيمانا منهم بأن التعلق بالدنيا وشواغلها أمر يصرف عن الآخرة ونعيمها.
وقد يكون الأمر كذلك، إن لم نعرف أن حضارة الإسلام العظيمة لم تبن على الزهد في الدنيا، والانصراف عنها بهذا المعنى، وإنما قامت على خلق التوازن بين طلب الدنيا وطلب الآخرة، واغتنام الدنيا وما فيها لبناء الآخرة؛ وذلك عملا بقوله تعالى: {وَٱبْتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلْءَاخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ ٱلْفَسَادَ فِى ٱلْأَرْضِ ۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ} (القصص، 77).
وهذا ما جاء به الإمام عبد السلام ياسين في كتاباته؛ إذ أصل لمفهوم الزهد من المنهاج النبوي، ورسم فهما تجديديا عميقا ينسجم مع مطلبي العدل والإحسان، ومع تصوره المنهاجي التجديدي.
لذلك سأحاول في هذا الموضوع، أن أقف مع هذا المفهوم كما فسرته السنة القولية والفعلية للرسول صلى الله عليه وسلم، وكما تجلى في سلوك الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ووفق التجديد المنهاجي للإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى، علّني أستجلي بعضا من جوانبه تكون لنا سراجا في زمن يحتاج فيه المسلمون إلى الهدي النبوي. وقبل ذلك لابد من الإشارة إلى ثلاثة منطلقات محددة لمفهوم الزهد في التصور المنهاجي:
الأول: أن الموضوع مرتبط في مرماه البعيد بالجهاد وتعبئة الأمة.
الثاني: أن التحذير من الدنيا والترغيب في الزهد والتقلل من شعب الإيمان.
الثالث: أن الزهد مرتبط بمقام عال في السلوك إلى الله عز جل، وهو مقام الصحابة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أتناول هذا الموضوع من خلال الإجابة عن ثلاثة أسئلة كبرى:
1- لماذا حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ورغب في الزهد؟
2- كيف ربى رسولنا الكريم الصحابة والصحابيات على الزهد والتقلل؟
3- كيف نفهم الزهد ونتمثله في زماننا الحاضر، وفي ضوء التجديد المنهاجي؟
وقبل ذلك؛ ما الزهد؟ قال المناوي رحمه الله: “الزهد في الشيء قلة الرغبة فيه، وإن شئت قلت الرغبة عنه، وفي اصطلاح أهل الحقيقة بغض الدنيا والإعراض عنها، وقيل ترك راحة الدنيا لراحة الآخرة، وقيل أن يخلو قلبك مما خلت منه يدك” (1)، وبمثل هذا قال الجرجاني (2).
وفي الصحاح قرن الجوهري الزهد بالعبادة، قال: “زهد في الشيء وعن الشيء… وفلان يتزهد، أي يتعبد” (3).
يتحصل مما سبق، أن الزهد يخالف الرغبة في الشيء والحرص عليه، كما أنه وثيق الصلة بالتدين. وله معان خاصة عند الصوفية الكرام؛ فهو عند الجنيد رحمه الله: خلو القلب عما خلت منه اليد، وعند الإمام القشيري: ترك الفضلة والبذل على الوهلة.
وإذا أردنا أن نقف مع البعد التجديدي لمفهوم الزهد عند الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى، فإننا نجده يميز بين مستويين من الزهد: زهد فردي، ويتمثل في كف المؤمن عن الحرام والشبهات والتقلل من المباحات، ويسبقه الورع وهو غض الطرف عن المحارم والاحتياط للدين في دقائق الأمور.
ثم هناك الزهد الجماعي، ويعبر عنه بالتقلل في مقابل الترف، وهو “قوة أخلاقية جماعية تمتنت حتى صارت معروفا يغير منكرا، ودعوة تسند دولة” (4).
ولنقف على معنى الزهد في بعده الجماعي، يجدر بنا أن نقف عند بعض المحددات لمفهوم “التقلل” كما يشرحها الإمام رحمه الله تعالى، قال:
– “التقلل زينة الله والطيبات من الرزق نتناولها من يد المنة الإلهية بالشكر والورع في حدود الحلال والحرام والمباح والمكروه” (5).
– “التقلل إمساك عن زمام النفس لكيلا تجتلبها المغريات” (6).
– “التقلل تضييق إرادي على النفس في الكماليات لا في الضروريات” (7).
– “التقلل غير الشح، هو خلق محمود، وتعبير عن الهمة العالية” (8).
– “التقلل عدل وبر واعتدال وعطاء من النفس بواسطة النفقة” (9).
– “التقلل إيثار للمحتاج بالفضل مما عندك فإن لم يكن لك فضل فاعمل واتعب واكسب لتعود ببرك وإيثارك على من لا قدرة له على الكسب” (10).
من خلال هذه التعاريف، يمكننا أن نستنتج أن الزهد يحمل في روحه معان تربوية أخلاقية اجتماعية إنسانية، تتنافى مع ما اعتاد عليه بعض الناس من أنانية وحب للذات وعدم التهمم بالغير ولو كان من ذوي القربى. كما نتوصل إلى انسجام نظرة الإمام رحمه الله تعالى للزهد مع تصوره للسلوك الجهادي في بعديه العدلي الإحساني.
فالزهد – في نظره – تربية إحسانية دائمة تنطلق من الفرد لتشمل الجماعة المجاهدة فتصير قوة أخلاقية لها من الزاد الإيماني ما يجعلها قادرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن التنظيم الجهادي القوي ما يجعلها دعوة تسند دولة؛ فهو رحمه الله يخرج مفهوم الزهد من سياق الخلاص الفردي إلى الخلاص الجماعي. ومن دائرة الانزواء عن الدنيا والانقطاع للذكر وتزكية النفس، إلى الذكر الجهادي والزهد الجماعي الذي يثمر بذلا وعطاء وانشغالا بدعوة الله وإصلاح حال الأمة. وهذا ما اختاره الإمام لنفسه ولجند الله من بعده.
قال الله تعالى: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ} (آل عمران، 152)، فهما خياران اثنان لا ثالث لهما؛ إما إرادة الدنيا وزينتها، وإما إرادة الآخرة ونعيمها. ومن ثمة نفهم تخيير الرسول الكريم لزوجاته، اللائي اخترن الله ورسوله والدار الآخرة رضي الله عنهن وأرضاهن. كما اختار ذلك كل من سار على نهجهن من الرجال والنساء ممن آثروا الآخرة على الدنيا وطمعوا فيما عند الله من عطاء ونعيم، وممن تاقت أنفسهم إلى القرب من الله فقنعوا من الدنيا بالقليل وهيؤوا للآخرة الكثير، حرصا منهم على تطبيق الوصية النبوية التي تحذر من الاغترار بالدنيا وزخرفها.
في الشعبة الحادية والسبعين من شعب الإيمان – الخوف من غرور الدنيا – يحذر الحبيب عليه الصلاة والسلام من غرور الدنيا ومن متاعها. قال: “إني بين أيديكم فرط وأنا عليكم شهيد. وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه من مقامي هذا. وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا. ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها” (11).
لماذا هذا التخويف النبوي؟ لأن الأمر مرتبط بهدف أسمى وغاية أجل؛ وهي حمل رسالة الخير إلى الناس كافة، ولا يمكن لمن ملأ حب الدنيا قلبه أن يغيرها، إنه جهاد طويل النفس، بعيد المدى، ولكن المجاهد من جاهد نفسه، كما في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد والترمذي.
قال الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: “التعبئة جهاد نفس، وإصلاح ذات قبل مناداة غير، تعبئين أمة وأنت أمة للشهوات، أسيرة في شرك الدنيا، وشرك التقاليد والعادات لا تستطيعين تخالفينها” (12)؛ فالدنيا تأسر أصحابها، وبعض التقاليد والعادات تكبل أصحابها تكاد تفقدهم حريتهم في الاختيار، أما دعوة الله وطلب وجهه الكريم فلا يتوافقان مع شخص مسلوب الإرادة، فاتر الهمة، معلق قلبه بالدنيا.
نتساءل بعد هذا: كيف تعبأ الصحابة والصحابيات فزهدوا في الدنيا وجاهدوا في سبيل الله؟ ما سر تلك التربية الأولى التي أنتجت ذلك الجيل الفريد، الذي أقبل بكليته على الله تعالى واقتنع تمام الاقتناع بهوان كل مطلب دون وجه الله؟
لعل السر هو صحبتهم لرسول الله، فبصحبتهم إياه وضعوا أنفسهم في أول الطريق؛ صحبوه وأحبوه فأورثهم ذلك علما بالله، كانت ثمرته خشية الله، فأخذوا كلامه بالرضا والقبول، وتمثلوه في أحوالهم وأقوالهم، وورثوا ذلك لمن اقتفى أثرهم، وسار على نهجهم.
علم رسول الله أصحابه بالقدوة والمثال، قالت أمنا عائشة رضي الله عنها تروي حاله: “كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارا، إنما هو التمر والماء” (13). لو حذر الرسول عليه السلام أصحابه، وما كان مثالا لهم لما تبعوه في أمر. قال الإمام رحمه الله: “كيف يصرف وجوههم إلى الآخرة وإلى إرادة وجه الله لو لم يكن هو ينبوع الإرادة وقدوة التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار البقاء. محبة أصلت الصحبة، صحبة أثمرت ذكر الله وخشية الله، صدق التقى به تصديق فاعتنقه” (14).
كما علمهم بالكلمة في أحاديث عدة، قال: “الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر” (15)، وقال: “إنِّي ممَّا أخَافُ علَيْكُم مِن بَعْدِي، ما يُفْتَحُ علَيْكُم مِن زَهْرَةِ الدُّنْيَا وزِينَتِهَا” (16).
وعلمهم أيضا بضرب المثال، فشبه الحياة الدنيا والمفتون بها بأبشع الصور حتى تشمئز من معانقتها النفوس الأبية، جاء في الحديث الشريف أنه صلى الله عليه وسلم “مَرَّ بالسُّوقِ، دَاخِلًا مِن بَعْضِ العَالِيَةِ، وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ، فَمَرَّ بجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ، فَتَنَاوَلَهُ فأخَذَ بأُذُنِهِ، ثُمَّ قالَ: أَيُّكُمْ يُحِبُّ أنَّ هذا له بدِرْهَمٍ؟ فَقالوا: ما نُحِبُّ أنَّهُ لَنَا بشيءٍ، وَما نَصْنَعُ بهِ؟ قالَ: أَتُحِبُّونَ أنَّهُ لَكُمْ؟ قالوا: وَاللَّهِ لو كانَ حَيًّا، كانَ عَيْبًا فِيهِ، لأنَّهُ أَسَكُّ، فَكيفَ وَهو مَيِّتٌ؟ فَقالَ: فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ علَى اللهِ، مِن هذا علَيْكُم” أخرجه مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه (17).
عاش عليه الصلاة والسلام حياة زاهدة أشد الزهد، ليس لأنه لا يملك شيئا ولكن لأنه كان “يصرف أموال المسلمين مصارفها، فكان يعطي ما بين جبلين من غنم وإبل، لكنه لنفسه كان مالكا، وعلى بطنه الشريف كان يربط الحجر من الجوع” (18).
هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان الصحابة والصحابيات رضوان الله عليهم أجمعين. ولكن دنياهم كانت بسيطة قبلية، ونحن دنيانا معقدة جوانبها، كثيرة متطلباتها ومغرياتها، فكيف نفهم نحن الزهد في زماننا الحاضر وكيف نتمثله؟
الجواب الشافي لهذا السؤال نجده في الفهم التجديدي للإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى؛ قال: “فإذا كانت قراءتنا لزهد النبي وأصحاب النبي نافعة، فليس من التمثل بنمط تقشفهم وتقللهم من الدنيا، لكن من التشبع بروح الترفع عن الدنيا وقناعة القلوب من متاعها وزينتها” (19).
ترفع إذن عن الدنيا وقناعة القلوب من زينتها وزخارفها. أما الصحابة فما كان زهدهم دروشة وهروبا، ولكن كان زهدهم عملا فعالا، جهادا متواصلا؛ زهد المهاجرون عندما تركوا الدنيا كلها وهاجروا إلى الله ورسوله، وزهد الأنصار عندما آووا إخوانهم، كما عاشوا حياة الزهد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بامتداد أنوار الصحبة، يقول الإمام رحمه الله تعالى: “يكون الزهد في الدنيا في نفس المؤمن والمؤمنة خلقا. حرية نفسية، وتعاليا عاطفيا عن اللصوق بالمادة وتأليهها” (20).
الزهد فضيلة فردية إيمانية، لكنها تتضارب مع فضيلة أعلى منها وهي الجهاد بالمال في سبيل الله. “فالزاهد، إن فهمنا الزهد انزواء وهروبا وفقرا مرادا مقصودا لذاته. مؤمن ضعيف عاجز عن نفع ذوي الحقوق عليه من عائل وجار وأمة” (21). يفهم منه أن المؤمن يسعى لكسب المال ثم ينفقه على وجهه الصحيح، فلا يعد زاهدا من عجز عن الكسب والتملك، ولا يزهد الإنسان فيما ليس عنده وفي متناول يده.
والزهد كفضيلة فردية يقابلها فضيلة جماعية هي التقلل؛ “بتوجه الجماعة المجاهدة الساعية إلى تغيير حال الأمة وإصلاحها إلى التقلل من مغريات الدنيا وترفها للتعبئة الشاملة للأمة” (22).
هكذا يرى المرشد عبد السلام ياسين الزهد، وإليه يوجه جند الله الذين حملوا على عاتقهم أمانة إحياء السنة واتباع المنهاج النبوي، وأمانة نصرة دين الله وإعلاء كلمته.
فالمؤمن بالله واليوم الآخر لا تغره الحياة الدنيا، فإن الله أمره وأوصاه، قال عز من قائل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۖ وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (فاطر، 5).
(1) محمد عبد الرؤوف المناوي، التوقيف على مهمات التعاريف، دار الفكر-بيروت، دمشق، ط1، تحقيق: د.محمد رضوان الداية، 1/390، يقصد بأهل الحقيقة الصوفية.
(2) تنظر: التعريفات، دار الكتاب العربي-بيروت، ط1، تحقيق ابراهيم الانباري، 1/153.
(3) الجوهري، الصحاح في اللغة، 1/293.
(4) عبد السلام ياسين، الإحسان، ط1، 1998، ج1، ص440.
(5) عبد السلام ياسين، الإحسان، دار لبنان للطباعة والنشر-بيروت، ط1، 2018، ج1، ص407.
(6) نفسه، ص408.
(7) نفسه.
(8) نفسه.
(9) نفسه.
(10) نفسه.
(11) حديث رقم 3846، كتاب صحيح البخاري، كتاب المغازي.
(12) عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، مطبوعات دار الأفق-الدار البيضاء، ط1، 1996، ج1، ص341.
(13) البخاري في صحيحه، باب: كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتخليهم عن الدنيا، حديث رقم 6121.
(14) عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات. مطبوعات دار الأفق-الدار البيضاء، ط1، 1996، ج2، ص344.
(15) أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، 4/ 2272، برقم: 2956.
(16) صحيح البخاري، 1465.
(17) صحيح مسلم، 2957.
(18) تنوير المؤمنات ج2، ص345.
(19) نفسه، ص343.
(20) عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، ط1، 1989، ص354.
(21) عبد السلام ياسين، مجلة الجماعة، العدد العاشر، ط1، 1982، ص117
(22) نفسه.