الرحم الإنسانية عند الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله

تعتبر القضية ”الإنسانية” إحدى القضايا المحورية التي تناولها العديد من المفكرين على اختلاف مشاربهم قديما وحديثا.
كل أدلى فيها بدلوه، وفق توجهاته وإديولوجياته. ومن أبرز المفكرين المعاصرين نجد الإمام المجتهد عبد السلام ياسين رحمه الله؛ حيث جعل هذه القضية إحدى الموضوعات المركزية التي تتمحور حولها معظم كتاباته أو أحاديثه وتسجيلاته.
ولقد أفرد لهذا الموضوع فصلا خاصا في كتابه ”إمامة الأمة” عنونه بالكرامة الآدمية.
حيث يرى الإمام عبد السلام ياسين أن الله عز وجل خلق الإنسان وهيأه لكرامته في الدنيا باعتباره من بني آدم، كما هيأه للخلود في الجنة أو العذاب في النار جزاء كسبه.
ولعل عناية الله عز وجل بالإنسان هي بعثه بالرسل إليه لكي يبلغوه بأن له ربا، وأن ربه لا يريد أن يشرك به شيئا، ولا أن يظلم الناس، ولا أن تستفزه الدنيا فينسى الآخرة، وأن لا يغتر بقوته فيستعبد الضعيف، ولا تغلبه شهوته أو يأخذه حسه ومتاعه فينسى أن له قلبا هو محور صلاحه وسعادته الدنيوية والأخروية.
قال الله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (الإسراء، 70).
فإذن الأرض بخيراتها خلقت لبني آدم، وأيضا خلق ابن آدم للكرامة عند الله، إن لم تستعبده شهواته ولم تفتنه الدنيا.
ذكر الإمام عبد السلام ياسين سورة البلد حتى يصف لنا كبد الإنسان وتعبه وسط الدنيا وفتنها من خلال قوله تعالى: فلا اقتحم العقبة 11 وما أدراك ما العقبة 12 فك رقبة 13 أو إطعام من يوم ذي مسغبة 14 يتيما ذا مقربة 15 أو مسكينا ذا متربة 16 ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة 17 أولئك أصحاب الميمنة 18 والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة 19 عليهم نار موصدة 20.
إذن هذا هو الإنسان في دار متسعة أرجاؤها، كثيرة أرزاقها، منعم فيها بحواسه وصحته، تبعث إليه الرسل، تدعوه إلى نعيم الجنة، غير أنه مكبل في الدنيا بقيود غرائزه، مفتون بما تلقاه من تربية في أسرته، وبمكانه في مجتمعه، وبأفكاره، وبطموحه الدنيوي وأيضا بما يقع عليه من ظلم، وما يقوم به هو من ظلم الناس.
ويرى الإمام أن حق الإنسان في التحرر من كل هذا الذي يصرفه عن ربه ويلهيه عن مصيره إليه في دار البقاء، هو مجمع حقوقه في الإسلام ومدارها.
وفي الفصل الأول من المنهاج النبوي، المعنون باقتحام العقبة إلى الله، في فقرة عقبات (1)، افتتح الإمام كلامه بقوله تعالى: لقد خلقنا الإنسان في كبد إنه خطاب للإنسان من حيث كونه إنسانا في كبد، فيه حث واستنهاض لهمته وتشجيع لاقتحام عقبات النفس المجبولة على الراحة والشح… حتى يصبح مؤهلا للانضمام لجماعة المؤمنين المتواصين بالصبر والمرحمة، المصطفين للميمنة والسعادة عند الله كما جاء في السورة الكريمة.
إذن فالخطاب الإسلامي، موجه إلى أعمق ما في الإنسان؛ وهو إحساسه الدائم بالعبثية والفراغ ما دام بعيدا عن الله. ثم تنتقل به وترفعه في صحبة المؤمنين المتواصين المتراحمين الصابرين، إلى طلب أسمى غاية وهي وجه الله والكينونة مع أصحاب الميمنة.
يقارن الإمام عبد السلام ياسين في كتابه إمامة الأمة (2) بين حقوق الإنسان في مذاهب الجاهلية والرأسمالية والاشتراكية ليخلص إلى نتيجة واحدة تشترك كلها مع حقوق الإنسان في الإسلام.
إن شرف الإنسان وكرامته وحريته تأتي من كونه مخلوقا سماويا بروحه، غير أن حاجات جسمه الأرضي، وظروفه الحيوية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، تثقله عن الصعود من هذا السجن الأرضي إلى سعادة الأبد.
يبين لنا الإمام رحمه الله أن الإسلام يهيء الطريق للإنسان، عبر توفير عدة وسائل لرحلة ناجحة، تبتدأ من الميلاد إلى الموت، تتمثل في الانتقال من الحيوانية للروحانية، ومن الغفلة عن الله عز وجل إلى الذكر، ومن الكبد في الدنيا إلى لحظة الراحة حيث لقاء ربه وهو عنه راض.
يتحدث الإمام عبد السلام ياسين عن الفكر الليبرالي الذي يربط حقوق الإنسان بسعادة الفرد، ويتصورها مزيدا من المتعة واللذة. أما الفكر الشيوعي فيسعى لنفس السعادة المادية وإن كان يقدم حقوق الجماعة على حقوق الفرد.
إذن في كلا الفكرين اهتمام باللذة المادية والقوة الحسية، بينما يبسط الإمام – دون الخوض فيما آلت إليه هذه الأفكار – حقوق الإنسان في توفير شروط الرحلة الكريمة إلى الآخرة والتي ذكرها آنفا، لتبقى القضية المحورية هي العرض الإلهي والرسالة الربانية باقتحام العقبة إلى الله.
وتوضيحا لذلك نستدل بما جاء في مقدمات في المنهاج (3): “رسالتنا لأنفسنا وللإنسان أن يكون الله عز وجل غاية كل فرد من العباد، أن يكون ابتغاء رضاه، والسباق إلى مغفرته وجنته، والسير على مدارج الإيمان والإحسان لمعرفته، والوصول إليه، والنظر إلى وجهه الكريم، منطلق الإرادة وحادي المسارعة وقبلة الرجاء”.
وجاء أيضا في نفس المرجع (4): “فلا يمنعنا تشبثنا بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم أن نفكر ونخطط ونطرح مشاكل المستقبل بوسائل الحاضر، لا سيرا مع الخط الذي تسير فيه الحضارة المادية، الصائرة إلى الهاوية، لكن إعدادا لقوة العلم والتنظيم كي نحل مشاكل التنمية، ونحل معها مشاكل الحضارة المادية المفروضة علينا، ريثما نقيم حضارة أخوية على مستوى حاجة الإنسانية للحرية، وطمأنينة العيش والنفس ونرد السلام للعالم، ولا باستعباد الإنسان وهضم كرامته وحقوقه الآدمية، ولا بطحن جسم الإنسان ووقته بين عجلات الإنتاج والاستهلاك ولا بتشويه نفس الإنسان وحياته الفكرية والعاطفية بالثقافة المنحلة المخدرة العنيفة”.
إنها رؤية واضحة جلية للإمام عبد السلام ياسين لماهية الإنسان والتي لا تحيد قيد أنملة عن الله وعن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، حيث الخلاص صونا لكرامة الإنسان وآدميته.
وكما قال الإمام علي كرم الله وجهه: “لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حرا”، ومثيلتها الكلمة المشهورة لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا”.
يسمي الإمام عبد السلام ياسين الصلة الجامعة للعباد بالرحم الواحدة؛ رحم الإنسانية، بموجب قوله عز وجل: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام. إن الله كان عليكم رقيبا (سورة النساء، الآية 5).
ويرى الإمام أن على العباد كلهم واجبات اتجاه إخوتهم في الرحم الآدمية والإنسانية، لا تنافي ولا تزاحم ولا تعطل الإلزام الولائي بين المؤمنين والاصطفاف في صف المسلمين.
يقول رحمه الله في الفصل الخامس من كتاب العدل (5): “بر الرحم الآدمية يحبه الله الجليل الرحيم. قال عز من قائل: لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (سورة الممتحنة، الآية 8).
ولقد كان حدَب رسل الله وشفقتهم على الخلق والخوف عليهم من عذاب الآخرة صفة بارزة، قال عز وجل عن سيدنا نوح عليه السلام: فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (سورة الأعراف، الآية 59).
وعن سيدنا شعيب عليه السلام: إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ (سورة هود، الآية 84).
وما كان دعاء نوح عليه السلام بالهلاك على قومه إلا بعد أن جاءه الوحي: أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (سورة هود، الآية 36).
يوضح ذلك الإمام عبد السلام ياسين بقوله: “الأصل أن لا يبتئس الرسول والمؤمن الوارث المبلغ رحمة وشفقة وخوفا على الخلق، يملي ذلك عليه إيمانه من أعلى واجب حقوق الإنسان، من جانب الدين والمروءة معا” (6).
وفي هذا الصدد يقول أيضا: ”يقف باعث المروءة عند معاملة المثيل البشري بتوفير كرامة العيش الدنيوي، ويطلب الدين أن تحسن إلى الناس في معاشهم بقصد أن تدعوهم إلى صلاح معادهم” (7).
لقد حدد الإمام عبد السلام ياسين الباعث على احترام حقوق الإنسان، وعلى أداء حقوق الإنسان، وعلى الجهاد من أجل حقوق الإنسان، باعث عال وسام، فهو يرى أن كل تدين لا يكون من مضمونه الشفقة على الخلق، ومن أهداف جهاده البر بالخلق والعدل في الخلق، يسميه الإمام: تدينا أجوفا.
أما الإنسانية فهي منقوصة مبتورة إذا كانت اهتماماتها بالحقوق الدنيوية للإنسان دون حقه الأسمى.
غير أن هذه الرحم الإنسانية التي تجمع الخلق بمختلف مشاربهم وأعراقهم ودياناتهم، يرى لها الإمام عبد السلام ياسين ضوابط وحدود تحكمها وتقننها.
ففي كلمة للإمام علي كرم الله وجهه، قال: “الناس صنفان، أخ لك في الدين، ونظير لك في الخُلق”. وعقب عليها الأستاذ عبد السلام ياسين في كتاب العدل بقوله: “يستحق الاعتبارَ من كان مثيلا لك في الخُلُق. يستحق اعتبارا لا يتجاوز به مرتبته إن كان مخالفا لك في الدين. يرفعه خُلُقه عن عامة البشر، لكن لا يخرجه من دائرة الكفر خُلُقه إن كان لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر. أما أن يستدرجك بخلقه حتى تتنازل عن دينك أو تتناساه أو تسكت عن “غيبياته” مجاراة، فذلك انزلاق في “المثلية البشرية” التي حاج بها الكفار الرسل فوجدوا الرسل جبالا شما لا تتزعزع. قال الرسل عليهم السلام: إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباد (سورة إبراهيم، الآية 11)” (8).
إذن الأخوة الدينية لها واجباتها وحقوقها، والنظيرية في الخلق حقها أن نبر ونقسط، والمثلية البشرية لا نتركها تسحبنا إلى أسفل.
إنه لأمر واقع أن نعترف بالجهود المحمودة التي يبذلها الفاضلون للدفاع عن حقوق الإنسان، بل ينبغي أن نتعاون مع نداء الضمير الإنساني في سبيل ذلك، ما لم يتعارض ذلك مع أصل من أصول ديننا.
يقول الإمام عبد السلام ياسين: “أنا لا أتنازل قيد شعرة عن أمر الله وسنة رسوله مجاراة لأحد”.
وأيضا: “أقرأ كلمة الله تعالى الرحمان الرحيم بخلقه فلا أضع الشفقة على الخلق التي جبلني عليها سبحانه في غير محلها الشرعي. وأقول: أفّ تُفّ! للحساسية التي لا تقبل أمر الله عز وجل. وأرفض التعاون مع النظراء، وأعتز بديني، وأتعالى عن المثلية البشرية التي تجردني منه كلِّهِ إن تعاميت عن بعضه” (9).
مناط البشرية وخلاصها، ومحور الإنسانية وجوهرها هو الإيقان باليوم الآخر.
هكذا دأب الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله في جل المواضيع سواء منها الدينية أو الدنيوية على ربطها بالآل والمآل.
فهو يرى أن شفقتنا على النظير الخلقي حاملة لنا على أن نسمعه خبر الآخرة.. ومن حقنا على الخلق أن نعلم وأن نعلّم، أن نخبر، مجرد الإخبار والله تعالى يتولى فتح القلوب أو يختم ويحل الأختام.
ونتاج ذلك أن لا ينجذب المؤمنون إلى حضيض المثلية البشرية، ولا يخجلوا من إنجازات الفضلاء، فيسكتوا عن حق الإنسان في سماع النبأ العظيم.
إذن كلمتنا، كلمة الله التي تتعطش إليها الإنسانية المتسكعة في جفاف ماديتها، هذا هو البلاغ الحق، الواجب أن نسمعه للعالم بلسان الحال والمقال.
المصادر والمراجع:
– لسان العرب لابن منظور – المجلد 1 – دار صادر بيروت.
– المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا – عبد السلام ياسين – الطبعة الثالثة 1414 ه – 1994 م – الشركة العربية الإفريقية للنشر والتوزيع.
– إمامة الأمة: عبد السلام ياسين – الطبعة الأولى 1430 / 2009 دار لسان للطباعة والنشر.
– العدل: الإسلاميون والحكم – عبد السلام ياسين – الطبعة الأولى 200.
– الإسلام غدا – عبد السلام ياسين – طبعة 1393 ه – العمل الإسلامي وحركية المنهاج النبوي في زمن الفتنة.
– تنوير المؤمنات: ج 1 – عبد السلام ياسين – الطبعة الأولى 1996 – مطبوعات الأفق الدار البيضاء.
الهوامش:
(1) المنهاج النبوي، ص 17.
(2) إمامة الأمة، ص 98 – 99.
(3) المنهاج النبوي، ص 12.
(4) المنهاج النبوي، ص 30.
(5) العدل، الإسلاميون والحكم، ص 329.
(6) نفسه، ص 329.
(7) نفسه.
(8) نفسه، ص 362.
(9) نفسه، ص 364.