الإنسان والسعادة في فكر الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله

المحاور
- تقديم
- العدل مفتاح السعادة
- الاستعداد للآخرة
- التوبة سر سعادة الإنسان ومنطلقها ومنتهاها
- ألا بذكر الله تطمئن القلوب
- دور القرآن الكريم في تحقيق السعادة الإنسانية
- خاتمة
تقديم
لا شك أن قضية الإنسان شكلت العنصر الأساس للتغيير الذي يرتكز عليه فكر الإمام عبد السلام ياسين بالنظر إلى علاقته بربه من جهة، وتموقعه داخل المجتمع من جهة أخرى، في إطار من التوازن الذي يقيم الفرد في موضع استخلاف الله له، وهو على مسكة من الاستعداد الروحي لمواجهة أعتى الرياح والخروج من كل الأزمات ومعارك الحياة خروج المنتصر. لذلك تجد الإمام رحمه الله ما فتئ يربط الدنيا بالآخرة متحدثا عن سر وجود الإنسان في هذا الكون وهو تحقيق العبودية لله عز وجل؛ فسيدنا محمد ﷺ الرحمة المهداة، بعثه الله عز وجل للناس كافة. ومتى كان الحل بعيدا عن مصيرنا بعد الموت فهو مجرد انحراف بالأهداف وتغرير بالإنسانية.
العدل مفتاح السعادة
لا يخفى على كل متتبع هذا التفاوت الصارخ بين أبناء المجتمع الواحد تفاوتا يمس فكر الإنسان مثلما يمس جيبه، لذلك فالحاجة إلى العدل تفرض نفسها بإلحاح بما يحقق كرامة الفرد ويضمن سعادته ويحميه من ذل السؤال بغض النظر عن انتماءاته الفكرية. إلى هذه الحاجة الفطرية أشار الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى في مقدمة كتاب “العدل، الإسلاميون والحكم”: “يتصدر مطلب العدل كل المطالب في البرامج السياسية الجادة. والعدل الذي أمر الله به -إقامتُه والتهييء لقيامه- أهم ما تتطلع إليه الأمة المسلمة وتشرئب إلى تحقيقه طوائف الأمة المستضعفة في الأرض، أمة الإسلام. فالعدل بين الناس في الحكم، والعدل في الأرزاق حين تُنتَجُ وحين تُقسم، والعدل تنشُده أمة الإسلام اقتضاءً من النظام العالمي العولمي الطاغي في الأرض، والعدلُ بين الناس جميعا أبيضِهم وأسوَدِهِمْ مطالب أساسية ينبغي أن تتصدر برامج الإسلاميين وهم على عَتبَةِ المسؤولية عن الحكم” (1).
حق الجميع في أن يعيش في سلام، حقهم في أن ينعموا بالسعادة، لكن عن أية سعادة نتحدث؟ أهي مجرد حقوق يستمتع بها الإنسان في حياته تضمن له بقاء هانئا، أم هي شيء آخر يرتفع به إلا عوالم لا تخضع لحسابات الانتماء؟
سعادة العالم تكمن في التخلص من القهر والظلم والتمايز الطبقي وانمحاء الفقر من الضمير الجمعي بما يتراكم في المتسع الجغرافي من مقدرات.
سعادة العالم في تحقق الكرامة مطلبا عزيزا ونفيسا تهون دونه المصاعب، وفي الحرية بما تحمله الكلمة من معنى يعيد التوازن للضمير الإنساني الذي ينادي “بحق الشعوب في تقْرير مصيرها، وبالحقوق المدنية، والسياسية، والاقتصادية. ينادي بحق الإنسان في الحرية والعدل، بحق المرأة والطفل، بحق العمل والصحة والتعلم، بحق السكن الكريم، بحق المرضى والعجزة. وكل ذلك مما نعتبره دينا إن قسناه بمعاييرنا ووزنَّاه بِصُنُوجِ ميزاننا” (2).
مطالب إنسانية لا تستقيم الحياة السعيدة بدونها، إذ كيف نهدم أركان الأسرة ونشتت تماسكها الداخلي فننحرف بفطرة المرأة ونقضي على حق الطفولة ونختلق الصراع بين طبقات المجتمع ونشعل فتيل الحروب في البلدان المستضعفة ونستحوذ على مقدرات الأمة ونسلمها رخيصة لقوى الاستكبار؛ كيف يحدث كل هذا ثم تتوقع الحياة الطيبة التي تعد مطمح كل إنسان في الأرض. مطمح يرتفع بـ”الضمير الإنساني فيطالب بحق الإنسانية في الحفاظ على الكوكب الأرضي نظيفا، وعلى البيئة الطبيعية مَصونة للأجيال” (3).
هذه مطالب الطين التي لا يرفضها عاقل تعد حتما من مقومات سعادة الإنسان في الأرض، وهي “مرتبة عالية من الوعي نعطيها من الاحترام مثل ما تعطيه الأصوات الحرة” (4).
غير أن الإنسان لا تكتمل سعادته فقط بتلبية حاجاته الطينية الفردية أو المجتمعية. إن أهم ما تغفل عنه الإنسانية العالمية هو هذه الروح بما تنادي به من احتياجات فطرية تلبيها في إطار معتقدات دينية أو اجتهادات إنسانية لعلها تروي العطش الساكن في الأعماق. لكن بعيدا عن نداء القرآن فالإنسان إلى ضياع. “ومن هنا تبدأ مهمتنا لإسماع البلاغ الإلهي. لإسماع رسالة القرآن. لإعلام الإنسان، والإعلان له، والصيحةِ في أذنه، والعرض اللطيف على قلبه، والحديث الشفوق إليه، والبيان الأخوي إليه، بأن من وراء الموت حياة، وبأن الإنسان ليس دابة أرضية” (5).
الاستعداد للآخرة
قضية المصير وما بعد الموت، السؤال المغيب، الذي من واجبنا أن نُسمعه للبشرية لتحذر من الدنيا التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذر منها القرآن. قال الله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (6).
تحذير قرآني لمن ألقى السمع ورغب بما عند الله تماما كما فعل الصحابة الذين (فطمتهم التربية النبوية عن حب الدنيا. فآثروا الله وما عند الله، فكانوا المجاهدين الأخيار) (7).
كيف نستعد للآخرة؟
عندما نتكلم عن الآخرة فإننا لا نقصد الفصل بين واقع الإنسان وحياته وبين ما ينتظرنا في يوم الحساب، إذ لا فصل بين الأمرين؛ فحياة المؤمن معبر للآخرة ومصيره مرتبط بسلوكه. “وتبقى مساحة شاسعة لا تمتد خارطة الجاهلية لتغطيتها هي مساحة معنى وجود الإنسان، مساحة الآخرة والمصير إليها وعلاقة هذا المصير بسلوك الإنسان واستقامته، ورفقه لا عنفه، وبذله لا أنانيته، وعطائه لا تبذيره، وأخلاقية الرحمة بالخلق وإطعام المساكين لا وحشية الاستهلاك الباذخ والمستضعفون في الأرض يموتون جوعا” (8).
معان لا يمكن الوصول إليها من فراغ، لذلك تجد لزاما على العبد الإنسان أن يستجيب لتلك الدعوة المتكررة للتوبة، بما هي يقظة قلبية تعيد للإنسان إنسانيته، وتفهمه أنه ليس له من الأمر من شيء، وأنه استخلفه على الأرض ليكون لله عبدا، وأن حياة ما بعد الموت أولى أن تأخذ بكل تفكيره وتخطيطه وأن إلى ربك الرجعى (9).
التوبة سر سعادة الإنسان ومنطلقها ومنتهاها
(نحن جماعة تتوب إلى الله) ونسعى فيمن يتوب معنا إلى الله.
التأمل في مفهوم التوبة يلمس نوعا من التجديد الروحي الذي يلازم حياة الإنسان في كل لحظة وحين، وهو من أهم مستلزمات السلوك إلى الله عز وجل ولا ينبغي أن يغيب عن عبد من عباد الله. التوبة جواب لسؤال يستفز فطرة مطمورة في عمق كل ذي ذرة صدق. التوبة ميثاق حب أكده رب العالمين إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين (10).
لأجل هذه المحبة تبنى الأسر، ويتعفف الشباب، وتعقد النية بالسير القلبي إلى الله عز وجل، ويرتقي إلى معارج الإحسان أهل الذكر والقرآن، ويتقرب أهل الشوق، ويدخل في الرحاب أهل القلوب المرابطة في محاريب الحب الإلهي.
ألا بذكر الله تطمئن القلوب
ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكى (11) حقيقة قرآنية مفادها: لا حديث عن السعادة والقلوب خواء من زاد السير. ذكر الله معراج قلوب المحبين وحياضها، ومجمع شملهم ورياضها، به تستقي من عطاء الكريم الوهاب، فمن لا ورد له لا وارد له. ينتقلون من حياة إلى حياة، فتربو في بواطنهم لطائف المنن الإلهية وتشرق على ظواهرهم بوارق الكرم الربانية. قلب لا يذكر ربه يصلك رجع صداه فراغا كأنما تسمع جعجعة ولا ترى طحينا، بينما قلب موصول بالله تعمره أسرار وأنوار وعطايا تتنزل عليه، يتجلى عليه ربه فيثبته، فلا تسمع له همسا. بدون ذكر لا حديث عن السعادة. و”من زهد في حِلَقِ الذكر، وزاغ عن الأوراد، وتهاون في الأوقات، قسا قلبه، وكسِلت جوارحه، وأظلمت روحانيته” (12).
دور القرآن الكريم في تحقيق السعادة الإنسانية
كيف لا يسعد من يحدثه ربه ويختصه بالخطاب العلوي؟
كلام الله عز وجل هو كلام المحبوب الذي تستكين عنده القلوب. يحمل من الأسرار ما ينفتح لكل قلب بمقدار النور الذي يسكنه، هو ربك يخاطبك وكأنه لا يوجد في الكون غيرك، خطاب يأسرك ويلامس خفاياك بدون استئذان، يرتب أوراقك التي تبعثرت ويجبر فلتات روحك، ملاذك قبل كل شيء وبعد كل شيء. إن فرطت فيه أصابك الذبول وعلاك الشحوب، وترامت عليك الأحزان من كل حدب وصوب، وإن أكرمته أكرمك، وكساك ثوب السكينة، وبسط لك بساط الفرح.
القرآن رسالة من الله عز وجل إلى البشر كافة. فيه مفاتيح السعادة، وبه تبنى الهمم السعيدة، بل به يعرف الله. أنزله الله “نورا لا تطفأ مصابيحه، وسراجا لا يخبو توقده، وبحرا لا يدرك قعره، ومنهاجا لا يَضِل نهجه، وشعاعا لا يُظلم نوره، وفرقانا لا يخمد برهانه، وتبيانا لا تهدم أركانه، وشفاء لا تخشى أسقامه، وعزا لا تهزم أنصاره، وحقا لا تخذل أعوانه” (13) القرآن والنبوة.
السعادة عنوان لحياة طيبة ينعم فيها الإنسان بحقه في الحياة الكريمة آمنا في سربه، ضامنا قوت يومه، حرا في رأيه، مناصرا لقضايا قومه، والأجمل من ذلك كله، عارفا ربه خاضعا لجلاله متنعما بوصله سعيدا بمعيته، لا تلهيه تجارة ولا بيع عن ذكره.
(1) عبد السلام ياسين، العدل الإسلاميون والحكم، ص 38. على موقع سراج siraj.net.
(2) المصدر نفسه. ص 389.
(3) المصدر نفسه. ص 396.
(4) المصدر نفسه ص 403.
(5) المصدر نفسه ص 417.
(6) سورة الحديد. الآية: 20.
(7) عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، الجزء الأول، ص: 275. على موقع siraj.net.
(8) عبد السلام ياسين، نظرات في الفقه والتاريخ، ص: 69. على موقع siraj.net.
(9) سورة العلق، الآية: 8.
(10) سورة البقرة، الآية: 222.
(11) سورة طه، الآية: 124.
(12) عبد السلام ياسين، الإحسان، ج 2، ص 248. على موقع siraj.net.
(13) عبد السلام ياسين، القرآن والنبوة، ص 17. على موقع siraj.net.