محبة الرسول صلى الله عليه وسلم

مقدمة
محبة الله ورسوله هي المقام الأسمى والغاية القصوى التي يسعى المؤمن الصادق لنيلها وترسيخها، إذ هي باب طلب القرب من الله عز وجل، وهي الحجر الأساس الذي يقيم عليه المؤمن بنيان الإيمان، فهي الروح والشريان، بها تكتسب حلاوة الإيمان، التي من حُرِمَها تاه في بحار الظلمات وتخبط فيها تخبط العميان، هي العروة الوثقى وعماد الطريق للسلوك إلى الله عز وجل، واكتساب محبته جل وعلا.
تعريف محبة الرسول صلى الله عليه وسلم
اختلف أهل العلم في تعريف محبة الرسولِ صلى الله عليه وسلم؛ فمنهم من قال المحبةُ اتباعُ الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنهم من قال: هي نصرتُه صلى الله عليه وسلم والذَبُّ عن سنتِه، والانقيادُ لها، وهيبةُ مخالفتِه. ومنهم من قال هي دوامُ الذكرِ للمحبوبِ، والشوقِ له، وميلِ القلب إلى موافقتِه صلى الله عليه وسلم. وهذه التعاريفُ هي إشارةٌ إلى ثمرات المحبة دون حقيقتها (1).
ويبدو أن أقرب التعاريفِ لتِبيانِ حقيقةِ المحبةِ المحمديةِ: الشوقُ للمحبوب والتعلقُ به، والميلُ الدائمُ لموافقته.
فقد اجتمعت كل الخصال الموجبة للمحبة في حقه صلى الله عليه وسلم، من جمالِ الصورة والظاهرِ، وكمالِ الأخلاقِ وطهارةِ الباطن، وتمامِ الإحسان والإنعامِ، ما لم يحصُلْ لبشرٍ قبلَه، ولن يكون لبشرٍ بعده؛ فهو البشيرُ النذيرُ السراجُ المنيرُ، الذي أخرج الله به البشريةَ من ظلمات الكفرِ والشركِ إلى نور الإيمانِ بالله عز وجل، فاستوجبَ صلى الله عليه وسلم المحبةَ الحقيقيةَ، شرعًا وفطرة وجبلة.
حكم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة التوبة: قلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (سورة التوبة، الآية 24).
يقول القاضي عياض معلقا على هذه الآية: “فكفى بهذا حضًّا وتنبيها ودَلالَة وحجة على إلزام محبته صلى الله عليه وسلم ووجوبِ فرضِها وعظمِ خطرِها واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم، إذ قرَّع تعالى من كان مالُه وأهلُه وولدُه أحبَّ إليه من الله ورسوله” (2).
وقال القرطبي رحمه الله: “في الآية دليل على وجوب حب الله ورسوله، ولا خلاف في ذلك بين الأمة، وأن ذلك مقدم على كل محبوب” (3).
ومن الأحاديث التي تدل على وجوب هذه المحبة شرعا، ما ورد عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين” (4).
وأخرج الشيخان رحمهما الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرءَ لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار” (5).
يقول النووي رحمه الله معلقا: “هذا الحديثُ العظيمُ، أصل من أصول الإسلام، قال العلماء رحمهم الله: معنى حلاوةِ الإيمان استلذاذُ الطاعات وتحملُ المشقات في رضا الله عز وجل ورسولِه صلى الله عليه وسلم، وإيثارُ ذلك على عَرَض الدنيا؛ ومحبةُ العبد ربَّه تحصل بفعل طاعته، وتركِ مخالفته، وكذلك محبة الرسول صلى الله عليه وسلم”.
برهانُ محبته صلى الله عليه وسلم وثوابُها
برهان المحبة:
المحبة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم هي شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وثمارُها تظهر في القلب واللسان والجوارح، فمن أحب شيئا آثره وآثر موافقتَه، وإلا لم يكن صادقا في حبه، فالصادق في حب الرسول صلى الله عليه وسلم من تظهر علامةُ ذلك عليه؛ وأولها الاقتداءُ به واتباعُ سنته وامتثالُ أوامره واجتنابُ نواهيه والتأدبُ بأدبه، وحبُ النور الذي جاء به وهو كتابُ الله، قال ابن مسعودٍ رضي الله عنه: “لا يَسْأَلُ أحدٌ عن نفسِه إلا القرآن، فإن كان يحب القرآنَ فهو يحب الله ورسوله” (6).
وورد في كتاب الإحسان للإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: فالحق جل وعلا قرن محبتَه واستحقاقَ المزيد من المحبة والمغفرة باتباعه صلى الله عليه وسلم، حيث قال في محكم كتابه: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (آل عمران، 31)، وقال صلى الله عليه وسلم: “أحبوا الله لما يغدوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي” (7)، فلا فاصل بين حب الله وحب الرسول وحب أهل البيت، وإن تنوعت النعمةُ. وأعظم نعم الله علينا الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم، فهو العروة الوثقى وُثُوقَ كتابِ الله الذي أنزل، الحبل الممدود بين الله وبين أحبابه وأصفيائه وأوليائه، سندا متصلا. (8) انتهى كلام الإمام رحمه الله.
والمحبة الحقيقية له صلى الله عليه وسلم ليست هي الاتباعُ فحسب. يقول الإمام عبد السلام ياسين: “فالصحابة رضوان الله عليهم تميزوا بتعلقهم بشخص الرسولِ صلى الله عليه وسلم. لم يكن عندهم ولا عند كل تقي أواه من هذه الأمة مجردَ مبلغ أدى رسالته ومضى، بل كان رسولَ الله. كان الشخصَ الذي اصطفاه اللهُ. القرآنُ رسالتُه والبيانُ بيانُه، تسمو بهم المحبة العميقة للشخص المكرم عند الله، ويسمو بهم القرآن، ويرفعهم البيان إلى ذرى الإحسان…” (9).
إلى أن يقول “في أحضان النبوة تربوا، ومنها رشفوا واستقوا حتى تفجرت في قلوبهم ينابيعُ الإيمان. تفانوا في الولاء لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم، فصحبته لهم لم تكن مجرد امتثال للنصوص وتطبيقا جافا لها وإنما هي رابطة قلبية، هي محبة تثبت وترسخ وتنمو وتتجدر في القلوب بالملازمة والمخالطة” (10) انتهى.
وبهذا فهي تشرُّبُ قلب عن قلب في تسلسل مستمر في الزمان عبر السند القلبي الحبي. أي أنها سارية من قلب إلى قلوب بسند متصل، يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: “ذاق الصحابة حلاوة الإيمان، وطعِمُوا طعمه، فحصل لهم اليقين. ذوّقوا طعمَ الإيمان تابعيهم، وذوّق تابعوهم تابعيهم، والجداول النورانية حية لا تزال، متدفّقةً ينور الله بها عبادَه، ويحيي بها أرض القلوب كما يحيي بغيث السحاب أرض الزرعِ” (11).
ثواب محبته صلى الله عليه وسلم:
أعظم ثواب وأعلى أمنية يتمناها كل مؤمن؛ الكينونةُ مع الحبيب صلى الله عليه وسلم في الجنة، يقول الله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا (سورة النساء، الآية 69).
ورد في سبب نزول هذه الآية “كما رواه الكلبي: أنها نزلت في ثوبان مولى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكان شديدَ الحبِّ له، قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونَحُلَ جسمُه، يعرف في وجهه الحزن، فقال له (رسول الله): يا ثوبان ما غير لونَكَ؟ فقال: يا رسول الله ما بي من ضر ولا وجع، غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك، واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة وأخاف أن لا أراك هناك، لأني أعرف أنك ترفع مع النبيين، وأني إن دخلت الجنة كنت في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخلِ الجنةَ فذاك أحرى أن لا أراك أبدا. فأنزل الله تعالى هذه الآية” (12).
أخرج الشيخان رحمهما الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال: متى الساعة؟ قال: “وماذا أعددت لها؟” قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقال: “أنت مع من أحببت”. قال أنس رضي الله عنه: “فما فرِحْنَا بشيء فرَحَنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: “أنت مع من أحببت”، فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإنْ لم أعمل بمثل أعمالهم” (13).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مِن أشد أمتي لي حبًّا ناس يكونون بعدي يودّ أحدهم لو رآني بأهله وماله” (14).
رجال ونساء صدقوا في محبته صلى الله عليه وسلم
لقد بلغ من شدة حب الصحابةِ والصحابيات رضوان الله عليهم لرسول الله أن يفتدوه بالمهج، وكان لهم من التعظيم والهيبة للجناب الشريف ما يُخْرِس الألسن ويغض الأبصار ويطوق الأنفس بحرس من جلاله صلى الله عليه وسلم وجماله.
فهذه المرأة الأنصارية قتل أبوها وزوجها وأخوها في غزوة أحد مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تسأل: ما فعل رسول الله؟ قالوا: هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فلما رأته قالت كل مصيبة بعدك جلل” (15).
والنماذج من شدة المحبة للشخص الكريم على الله، لا تعد ولا تحصى:
فهذا خالدُ بنُ معدان كان لا يَأوي إلى فراشه إلا وهو يذكر شوقه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإلى أصحابه من المهاجرين والأنصار، ثم يُسَمِّيهم ويقول: هم أصْلي وفصلي، وإليهم يحنُّ قلبي، طالَ شوقي إليهم، فعجِّل ربِّي قبضي إليك، حتى يغلبَه النومُ وهو في بعض ذلك.
كان الإمام مالك رحمه الله، إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغيرُ لونُه وينحني حتى يصعبَ ذلك على جلسائه. وكتب السيرة مليئةٌ بمثل هذه النماذج.
وختاما؛ نصلي ونسلم على من كان رحمة مهداة ونعمة مسداة للخلائق عامة، مصداقا لقوله عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (سورة الأنبياء، الآية 106)، وكان المنة العظمى التي امتن الله بها على المومنين خاصة، حيث قال سبحانه: لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (16).
نسأل الله عز وجل – ونحن نعيش نفحاتِ ذكرى مولدِه الشريف – أن يقيض لنا من يوقظ هممَنا ويدلُّنا على حب الله الذي لا يتم إلا باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، فيكونَ جنابُه الشريفُ أحبَّ إلينا من أنفسنا وأولادنا والناس أجمعين، فتفيضُ نورانيتُه علينا وترفعنا لمقامات القرب من الله عز وجل، نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (سورة يوسف، الآية 56).
(1) القاضي عياض، كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى، ج2، ص 280.
(2) نفسه، ص 281.
(3) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن،ج3.
(4) صحيح البخاري، كتاب الإيمان، ح رقم 14.
(5) نفسه، رقم 16.
(6) القاسم بن سلام، فضائل القرآن، ص[1] .
(7) رواه الترمذي في الجامع، حديث رقم 3880.
(8) عبد السلام ياسين، الإحسان، ج 1، ص177.
(9) الإحسان، ج1، ص87.
(10) نفسه، ص 88.
(11) عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ج2،ص19.
(12) الواحدي، أسباب النزول، ص115.
(13) صحيح البخاري، ح. رقم 3688.
(14) رواه مسلم.
(15) رواه ابن إسحاق في السيرة النبوية.