فصل فِي الاختلاف فِي الصَّلَاة عَلَى غَيْر النَّبِيّ ﷺ وسائر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَامُ

قَال الْقَاضِي وَفَّقَه اللَّه: عَامَّة أَهْل الْعِلْم مُتَّفِقُون عَلَى جَوَاز الصَّلَاة على غير النبي ﷺ، وَرُوي عَن ابن عَبَّاس أنَّهُ لَا تَجُوزُ الصلاة على غير النَّبِيِّ ﷺ.
وَرُوي عَن ابن عَبَّاس أنَّهُ لَا تَجُوزُ الصلاة على غير النَّبِيِّ ﷺ (1).
وَرُوِيَ عَنْهُ: لَا تَنْبَغِي الصَّلَاةُ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا النَّبِيِّينَ.
وَقَالَ سُفْيَانُ: يُكْرَهُ أَنْ يُصَلَّى إِلَّا عَلَى نَبِيٍّ.
وَوَجَدْتُ بِخَطِّ بعض شيوخي: مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يصلى عَلَى أحَد مِن الْأَنْبِيَاء سِوَى مُحَمَّد ﷺ، وَهَذَا غَيْر معروف من مَذْهِبه، وَقَد قَال مَالِك فِي “المْبسُوط” لِيَحْيَى ابن إِسْحَاق: أكْرَه الصَّلَاة على غير الأنبياء، وما ينبغي لنا أَن نَتَعَدَّى مَا أمِرْنَا بِه.
قَال يَحْيَى بن يَحْيَى: لسْت آخُذ بِقَوْلِه؛ وَلَا بَأْس بِالصَّلَاة عَلَى الْأَنْبِيَاء كلهم وَعَلَى غَيْرِهِم؛ وَاحْتَجّ بِحَدِيث ابن عُمَر، وبما جاء فِي حَدِيث تَعْليم النَّبِيّ ﷺ الصَّلَاة عَلَيْه؛ وَفِيه: وَعَلَى أزْوَاجِه، وَعَلَى آلِه.
وَقَد وَجَدْت مُعَلَّقًا عَن أبى عمران الفارسي: روي عَن ابن عَبَّاس رَضِي اللَّه عَنْهُمَا كَرَاهَة الصَّلَاة عَلَى غَيْر النَّبِيّ ﷺ؛ قَال: وَبِه نَقُول. وَلَم تَكُن تُسْتَعْمَل فِيمَا مَضَى.
وَقَد رَوَى عَبْد الرَّزَّاق عَن أَبِي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (صَلُّوا عَلَى أنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَهُمْ كَمَا بعثني) (2).
قالوا: والأسانيد عَن ابن عَبَّاس لَيّنَة؛ والصَّلَاة فِي لِسَان العَرَب بمَعْنى التَّرَحُّم والدُّعَاء؛ وَذَلِك عَلَى الإطْلاق حَتَّى يَمْنَع مِنْه حَدِيث صحيح أَو إجماع.
وقد قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (الأحزاب، 43).
وَقَال: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (التوبة، 103).
وَقَال: أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ ورحمة (البقرة، 157).
وَقَال النَّبِيّ ﷺ: “اللَّهُمّ صل على آل أبي أوفى” (3)؛ وكان إذا أتاه قَوْم بِصَدَقَتِهِم، قَال: “اللهم صل على آل فلان”.
وفي حديث الصلاة: “اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ”.
وَفِي حديث آخر: “وَعَلَى آل مُحَمَّد”: قِيل أتْبَاعُه، وَقِيل آل بَيْتِه وَقِيل أمَّتُه. وَقِيل: الْأَتْبَاع، والرَّهْط، وَالْعَشِيرَة. وَقِيل: آل الرَّجُل وَلَدُه. وَقِيل: قَوْمُه. وَقِيل: أَهْلُه الَّذين حُرِّمَت عَلَيْهِم الصَّدَقَة.
وَفِي رِوَايَة أَنَس: سُئِل النَّبِيّ ﷺ: من آلُ مُحَمَّد؟ قال: “كل تقي” (4).
ويجيء عَلَى مَذْهَبِ الْحَسَنِ أَنَّ المُرَادَ بِآلِ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدٌ نَفْسُهُ؛ فَإنَّه كَان يَقُول فِي صلاته عَلَى النَّبِيّ: اللَّهُمّ اجْعَل صَلَوَاتِك وَبَرَكَاتِك عَلَى آل مُحَمَّد، يُرِيد نَفْسَهُ؛ لِأَنَّه كان لا يُخِلّ بِالفَرْض، وَيأْتِي بالنَّفْل؛ لِأَنّ الفَرْض الَّذِي أمَر اللَّه تَعَالَى بِه هُو الصَّلَاة عَلَى مُحَمَّد نَفْسِه.
وَهَذَا مِثْل قَوْلِه ﷺ: “لَقَدْ أُوتِيَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ” (5) يُرِيد من مَزَامِير دَاوُد.
وَفِي حَدِيث أَبِي حُمَيْد السَّاعِدِيّ فِي الصَّلَاة: “اللَّهُمّ صَلّ عَلَى مُحَمَّد وَأزْوَاجِه وَذُرِّيَّتِه”.
وَفِي حَدِيث ابن عُمَر أنَّه كَان يُصَلَّي عَلَى النَّبِيّ ﷺ، وَعَلَى أَبِي بَكْر وعمر. ذَكَرَه مَالِك فِي المُوطّأ من رِوَايَة يَحْيَى الأنْدَلُسِيّ.
وَالصَّحِيحُ من رِوَايَة غَيْرِه: وَيَدْعُو لأبي بَكْر وعمر.
وَرَوَى ابن وَهْب، عَن أَنَس بن مَالِك: كُنَّا نَدْعُو لِأَصْحَابِنَا بالغَيْب؛ فَنَقُول: اللَّهُمّ اجْعَل مِنْك عَلَى فُلان صَلَوَات قَوْمٍ أبْرَارٍ الذين يَقُومُون باللَّيْل وَيصُومُون بالنَّهَار.
قَال الْقَاضِي أبو الفضل: وَالَّذِي ذَهَب إلَيْه المُحَقّقُون، وَأمِيل إليه، مَا قَالَه مَالِك وَسُفْيَان رَحِمَهُمَا اللَّه، وَرُوي عَن ابن عَبَّاس؛ واخْتَارَه غَيْرُ وَاحِد مِن الفُقَهَاء وَالمُتَكَلّمِين – أنَّه لا يُصَلَّى عَلَى غَيْر الْأَنْبِيَاء عِنْد ذِكْرِهِم؛ بَل هو شيء يخْتَصّ بِه الْأَنْبِيَاء، توقيرا وتعزيرا، كما يُخص اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذكره بالتنزيه والتقديس والتعظيم، ولا يشاركه فيه غيره، كذلك يجب تَخْصِيص النَّبِيّ ﷺ وَسَائِر الْأَنْبِيَاء بِالصَّلَاة وَالتَّسْلِيم، وَلَا يُشَارَك فِيه سِوَاهُم، كَمَا أمر الله به بِقَوْلِه: صَلُّوا عَلَيْهِ وسلموا تسليما (الأحزاب، 56).
وَيُذُكَر من سِوَاهُم مِن الْأَئِمَّة وَغَيْرِهِم بِالغُفْرَان وَالرّضَى؛ كَمَا قَال تَعَالَى: يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بالإيمان (لحشر، 10).
وقال: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ الله عنهم (التوبة، 100).
وأيْضًا فَهُو أمْر لَم يَكُن مَعْرُوفًا فِي الصَّدْر الأَوَّل، كَمَا قَال أَبُو عِمْرَان؛ وَإِنَّمَا أحدَثَه الرَّافِضَة وَالمُتشَيّعَة فِي بَعْض الْأَئِمَّة، فَشَارَكُوهُم عِنْد الذّكْر لَهُم بِالصَّلَاة، وَسَاوَوْهُم بِالنَّبِيّ ﷺ فِي ذَلِك.
وأيْضًا فَإِنّ التَّشَبُّه بِأَهْل الْبِدَع مَنْهِيّ عَنْه؛ فَتجِب مُخَالَفَتُهُم فِيمَا الْتَزَمُوه من ذَلِك.
وَذَكَر الصَّلَاة عَلَى الآل وَالْأزْواج مَع النَّبِيّ ﷺ بحكم التَّبَع وَالْإضَافَة إليْه لَا عَلَى التَّخْصِيص.
قَالُوا: وَصَلَاة النَّبِيّ ﷺ عَلَى من صَلَّى عَلَيْه مجْرَاهَا مجْرَى الدُّعَاء وَالمُوَاجَهة، لَيْس فِيهَا مَعْنَى التَّعْظِيم وَالتَّوْقِير.
قَالُوا: وَقَد قَال تَعَالَى: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بعضا (النور، 63)؛ فكذلك يَجِب أَن يَكُون الدُّعَاء لَه مُخَالِفًا لِدُعَاء النَّاس بَعْضُهُم لِبَعْض.
وَهَذَا اخْتِيَار الْإِمَام أَبِي الْمُظَفَّر الإسفَراينِيّ من شُيُوخِنَا، وبه قَال ابن عبد البر.
من كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى ﷺ ، للقاضي عياض، ج2، ص 68–70. الطبعة الثالثة: 1461هـ – 2001م.
(1) عزاه السيوطي للبيهقي في الشعب، وسعيد بن منصور.
(2) مصنف عبد الرازق (2/216 رقم 3118).
(3) أخرجه البخاري (1497، 4166، 6332، 6359)، مسلم (1078/176) عن عبد الله بن أبي أوفى، تحفة الأشراف (5176).
(4) الشذرة (3)، المقاصد الحسنة (3).
(5) مسلم (793/235) عن بريدة بن الحصيب، تحفة الأشراف (1999)، مسلم (793/236) عن أبي موسى، تحفة الأشراف (9101).