حفظ القرآن.. معيقات وحلول

لقد بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وبعثه مؤيدا بوحي عظيم يوحى إليه، كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة، كتاب يخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن الله تعالى، فهو كلام الله المنزل على عبده ورسوله، المحفوظ بوعد الله في قوله تبارك وتعالى: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [سورة الحجر: 9].
ولم يختلف أحد من السلف ولا الخلف على حفظ القرآن الكريم بكل معاني الحفظ: حفظه من التبديل والتغيير [مختصر ابن كثير، هاني الحاج، المكتبة التوفيقية، القاهرة، مصر، ج 2 /388]. كما وقع لباقي الكتب التي حرفها الضالون أو المغضوب عليهم مما ذكر خبرهم القرآن الكريم. ومحفوظ من التغيير زيادة أو نقصانا، كما قد يتوهم البعض ممن يطمعون في تغييره، وحاشا أن يناله أحد بسوء. ومحفوظ بما توارثه أهل القرآن وتناقلوه جمعا عن جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب، أي محفوظ في الصدور، قال أثير الدين الأندلسي: “وقيل: يحفظه في قلوب من أراد بهم خيرا حتى لو غير أحد نقطة لقال له الصبيان: كذبت، وصوابه كذا، ولم يتفق هذا لشيء من الكتب سواه” [الأندلسي محمد بن يوسف، التفسير الكبير المسمى البحر المحيط، دار إحياء التراث العربي، ج 5 /445].
وللقرآن، باعتبار مصدره وهو الله تعالى، منزلة عظيمة في قلوب المؤمنين، وله تأثير فيمن يسمعه مسلما كان أو غير مسلم، وله مكانة أثيرة عند العارفين لعلو قدره وسمو شأنه عند الله تعالى. ولذلك يعتبر الإمام المجدد عبد السلام ياسين – رحمه الله تعالى – حفظ القرآن وساما وكنزا وموردا إذ يقول: “ألم يكن ما مع المؤمنين من القرآن مقياسا للتقدم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ألم تكن السورة يحفظها المومن وتحفظها المؤمنة كالوسام يفتخر به، وكالكنز يُسعى إليه، وكالمورد يأتي الناس عطاشا ليشربوا منه؟ حفظت سورة البقرة! حادثة ومزية تهمس بها الإسلاميات فيما بينهن اليوم، وفي غد الإسلام إن شاء الله يكون الحفظ شرطا للمرور والنجاح” [ياسين عبد السلام، تنوير المؤمنات، ج 2 /260].
لكن القرآن الكريم ولعظمته وقوته وشدته على النفوس تلقيا وحفظا، ليس سهل المنال والحفظ إلا لمن يسر الله له ذلك وأعانه عليه بتوفيق منه. وقد تنبه كثير من الصحابة إلى هذا الأمر، إذ شكا الإمام علي – كرم الله وجهه – لرسول الله تعذر حفظه للقرآن الكريم وانفلاته منه، فأرشده كما جاء في الحديث الشريف إلى الدعاء [الحديث في سنن الترمذي، أبواب الدعوات، باب الحفظ، حديث رقم: 4641]. وقال تعالى: إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا [سورة المزمّل: 4]. وقال الفراء: أي ليس بالخفيف، ولا السَّفْساف، لأنَّه كلام ربنا تبارك وتعالى. وقيل المراد من كونه ثقيلا عظم قدره وجلالة خطره، وكل شيء نفس وعظم خطره فهو ثقل وثقيل وثاقل، وأنه عليه الصلاة والسلام كان يثقل عند نزول الوحي إليه، فقد روي أن الوحي نزل عليه وهو على ناقته فثقل عليها، حتى وضعت جراءها (صدرها)، فلم تستطع أن تتحرك. وعن ابن عباس: كان إذا نزل عليه الوحي ثقل عليه وتربد وجهه، وعن عائشة رضي الله عنها: “رأيته ينزل عليه الوحي، في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليرفض عرقا” [الرازي محمد بن عمر بن حسين القرشي، دار الكتب العلمية ، بيروت، 2004م – 1425هـ]. وقال الحسن بن الفضل: ثقيل لا يحمله إلا قلبٌ مؤيدٌ بالتوفيق ونفسٌ مزيّنةٌ بالتوحيد. [القرطبي محمد بن أحمد، الجامع لأحكام القرآن، دار الفكر، ج 19/37]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تعاهدوا هذا القرآن، فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتا من الإبِلِ في عُقُلها” رواه الشيخان عن أبي موسى الأشعري (رضي الله عنه).
ومعنى ذلك أن المرء يجد صعوبة في حفظ القرآن كما يجد صعوبة في تلقيه لأسباب عديدة نجملها فيما يلي:
1 – معيقات حفظ القرآن:
ما الذي يحول بيننا بين حفظ القرآن الكريم؟
– هجر القرآن، أي أنه ليس عندنا من الأولويات، وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا. [سورة الفرقان: 30].
– وسوسة إبليس بخلق الأعذار، استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله [سورة المجادلة: 19].
– التسويف: مما يعيق المرء دون الوصول إلى الغايات.
– التردد: قال الإمام ابن رجب الحنبلي: من صدق العزيمة يئس الشيطان منه، ومن كان مترددا طمع الشيطان فيه وسوّفه ومنّاه.
– الخوف من نسيان القرآن: كتب الله على آدم عليه السلام النسيان قال تعالى: ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما [سورة طه: 112]. فمن طبع الإنسان النسيان يقول النبي صلى الله عليه وسلم:إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني [صحيح الإمام مسلم بن الحجاج، دار الاعتصام، ص: 261. رقم الحديث: 572].
– عدم الثقة في النفس: فحسب بعض الدراسات فإن معدل ما يتكلم الإنسان به مع نفسه في اليوم أكثر من خمسة آلاف كلمة أكثر من 77% منها سلبي. ولطالما يردد الناس: لا أستطيع، لا يمكن، أنا كثير النسيان، أنا لا أقدر، أنا ذاكرتي ضعيفة…
2 – الحلول المساعدة على الحفظ
عزمت على حفظ القرآن، ماذا أفعل؟
يقول الإمام عبد السلام ياسين: وشجعنا صلى الله عليه وسلم على حفظه واستظهاره ووعدنا على ذلك الوعود الكبرى. قال: “الماهر بالقرآن معَ السَّفَرةِ الكرام البررة. والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران” رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها. وصية بتعاهده تُفهِم أن الأصل أن يحفظ المسلمون كتاب ربهم. ثم هذا الجزاء الكريم للحافظ وأهل بيته) [ياسين عبد السلام، تنوير المؤمنات، ج 1 /362].
ومن الأمور المساعدة على تجاوز هذا التردد في حفظ كتاب الله تعالى نجد ما يأتي:
أ – الإخلاص: الإخلاص سر الفتح وباب العطاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى “ورجل تعلم العلم وقرا القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: ماذا عملت فيها؟ قال: تعلمت فيك العلم وعلمته فيقول كذبت قرأت القرآن ليقال قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار” [رواه الإمام مسلم في صحيحه].
ب – الدعاء: وجب على العازم على حفظ كتاب الله أن يتوكل على الله ويتضرع إليه، بأن يثبته في صدره قال تعالى: ادعوني استجب لكم [سورة غافر: 60].
ج- الاستفادة من الخبرات والتجارب: يقول الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله: وتوضع الخبرة التربوية أحدَثَ ما وصلت إليه العبقرية العلومية، في خدمة حِفظ القرآن. 2
ونذكّر هنا ببعض هذه الخبرات ومنها:
– تعلم الإيحاءات الإيجابية من نحو: أنا تركيزي قوي، أنا أستطيع أنا أقدر، أنا ذاكرتي قوية90% عوامل نفسية و 10 % تقنيات ومهارات..
– اختيار المصحف: الالتزام بنسخة واحدة من المصاحف: ومن الأفضل أن تكون خلفية المصحف صفراء لأنها مريحة للدماغ وتسرع الحفظ وكذلك المصحف الملون مهم للحفظ لأن الدماغ يحب الألوان.
– اختيار الوقت المناسب للحفظ: أفضل وقت للحفظ هو قبل الفجر لأن الدماغ يكون مرتاحا وجاهزا لاستقبال المعلومة، قال تعالى: إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا [المزمل- 4].
– تصحيح التلاوة: لعلها أهم خطوة في طريق الحفظ الصحيحة و السليمة، ذلك أن تصحيح التلاوة مقدم على الحفظ ولا يكون تصحيح التلاوة إلا بالمشافهة فقد أخذه أفصح العرب لسانا صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام مشافهة.
– الحفظ اليومي المنتظم خير من المتقطع.
– المراجعة أهم من الحفظ:
الإنسان حسب الدراسات إذا شاهد المعلومة فسوف ينساها خلال 24 ساعة، وقد يتذكر 80% من المعلومة. والمراجعة قبل النوم مهمة جداً لأن العقل يخزن المعلومات في الليل ويبدأ العقل اللاوعي بترتيبها خلال النوم. قال النبي صلى الله عليه وسلم:“إذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره وإلا نسيه” [رواه الإمام مسلم]. وقال صلى الله عليه وسلم: “تعاهدوا القرآن فو الذي نفسي بيدي لهو أشد تفصيا من الإبل في عقلها” [رواه الإمامان البخاري ومسلم].
– اختيار طريقة هناك طرق وتجارب كثيرة في الحفظ يمكن الرجوع إليها (مجدي عبيد، يحيى الغوثاني، سعيد حمزة…) من طرق الحفظ المناسبة لكل شخص وحسب قدراته وظروفه (الاستعانة بالأشرطة والوسائل الحديثة وما إلى ذلك مما توفره تكنولوجيا العصر…).
ولا بد من أخذ العزم على حفظه لما في ذلك من خير يعود على صاحبه، يقول الإمام المجدد رحمه الله: “القرآن! القرآن! القرآن! ما أروع أن يشد المؤمن والمؤمنة معاقد العزم ليحفظ القرآن ويجمعه ويحافظ عليه. ما أحسن أن يبسط المرء ساعد الجد والإرادة إلى كسل نفسه وغفلة حسه يخاطبها ويؤنبها ويدفع بها: “هذه السنة سنة القرآن!” فعل ذلك فلان من الجماعة وفلان، أفراد ونحن نريد من أولي العزم في الحفظ والفهم والعلم والعمل جماعات. وليصبر على الهوان والضعة والضياع من لا يحرك همته قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في دار الدنيا فإننا منزلك عند آخر آية تقرأ بها” رواه أحمد وأبو داود والترمذي بسند حسن. حسبه يومئذ من الخيبة والخسران أن يحملق في القراء العالمين العاملين وهم إلى صعد وهو بمستقر انحطاطه” [ياسين عبد السلام، الرسالة العلمية، ص: 11-12].
ولا ننسى عند حفظ القرآن الاعتقاد التام واليقين الراسخ بقدراتنا العقلية التي منحنا إياها المولى عزل وجل، مع حسن الظن بالله والتوجه إليه بالدعاء، فإذا عجزت وترددت فتذكر قول الحبيب صلى الله عليه وسلم:”إن أردت عيش السعداء وميتة الشهداء والنجاة يوم الحشر و الأمن يوم الخوف، والنور يوم الظلمات، والظل يوم الحر، والري يوم العطش، والوزن يوم الخفة، والهدى يوم الضلال، فادرس القرآن فإنه ذكر الرحمن وحرز من الشيطان ورجحان [أخرجه الديلمي].
وفقنا الله وإياكم إلى حفظ كتابه والعمل به والشوق إلى الجلوس بين يديه والاعتكاف على خدمته آمين. والحمد لله رب العالمين.