الانتصار لسيدنا محمد ﷺ بين الواقع والمأمول

لم يسلمِ الرَّسول صلى الله عليه وسلم من الإساءة والأذى منذُ أن كان حيًّا، سواء في مرحلة الدعوة في مكة، أو الدولة في المدينة، حيث وقعت حادثة نوردها للاعتبار؛ أقرض، ذات مرة، يهودي يدعى يزيد بن سعنة النبيَّ صلى الله عليه وسلم قرضا بمقدار ثمانين مثقالا من الذهب، وقبل أجل استيفاء الدين بيومين أو ثلاثة جاءه اليهودي متعمِّدا وعلى وَجْهه غضبٌ عارم، فأخذ النبيَّ بمجامع ثوبه وقال غاضِباً: “أدِّ ما عليك من دين يا محمد، فوالله ما علِمتكُم يا بَني عبدالمطلب إلا مُطُلا في سداد الديون”، فانتفض عُمر الذي كان متواجدا حينها مع النبي متهيجا من شدة الغضب تجاه وقاحة تصرف اليهودي مع النبي صلى لله عليه وسلم وقال له: «يا عدو الله تقول لرسول الله ما أسمع، وتفعل برسول الله ما أرى، والله لولا أنني أحذر غضبه صلى الله عليه وسلم لضربت رأسك بسيفي هذا»، وزيد بن سعنة يراقب وجه النبي صلى الله عليه وسلم الذي بدا هادئا، فالتفت عليه السلام إلى عمر وقال: «لا يا عمر، لقد كان من الواجب عليك أن تأمرني بحسن الأداء وأن تأمره بحسن الطلب»، ثم قال: يا عمر «خذه وأعطه حقه، وزده عشرين صاعا من تمر جزاء ما روعته»، فأخذ عمر زيدا وأعطاه حقه وزاده عشرين صاعا من التمر، فقال له: ما هذه الزيادة؟ قال: أمرني رسول الله أن أزيدها جزاء ما روعتك..
فقال زيد بن سعنة: ألا تعرفني يا عمر؟ قال: لا، قال: أنا زيد بن سعنة، قال عمر: حبر اليهود؟ قال: نعم. قال عمر: فما الذي حملك على أن تفعل برسول الله ما فعلت؟ قال زيد: يا عمر والله ما من شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفته في وجه محمد حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أعرفهما فيه: الأولى: يسبق حلمه جهله، والثانية: لا تزيده شده الجهل عليه إلا حلما، أما وقد عرفتهما اليوم فإني أشهدك أني قد رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا ورسولا، وعاد حبر اليهود مع عمر بن الخطاب إلى المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، وشهد مع رسول الله بعد ذلك كل المشاهد والغزوات، وتوفي في غزوة تبوك مقبلا غير مدبر، رضي الله عنه وأرضاه” (1).
كان زيد اليهودي يعد مِن رعايا الدولة الإسلامية التي يعيش في كنفها معززا مكرما مع أنه على غير دينها، ومع ذلك استطاع أن يتجرَّأ بوقاحة على زعيم الأمة السياسي والعسكري وسبِّه وسب نسبه، متجاوزا بذلك الشريعة المُنَظمة للمجتمع الإسلامي، والتي تستوجبُ الاحترامَ التام لقائد الأمة، لِيفاجئ صلى الله عليه وسلم خصمه بردة فعل غير متوقعة؛ مَليئة بالحِلم والإحسان، فهو يعلمُ كل العِلم أنه ليس شرطا الرد على الظلم بظلم مثله، فالرفق والحلم أبقى وأقوى. مع الإشارة إلى أن هذا التصرف لا يوحي إلى الاستسلام والإقرار بالظلم بل هو رفعة وسمو، لأن اللجوء إلى العنف بشتى ألوانه وأشكاله هو أقصر وأسهل طريق، فإمكانية ممارسته كامنة في نفس كل واحد منا، خاصة في ظل التوحش العولمي الذي يحسن توظيف ظاهرة الإسلاموفوبيا توظيفا خبيثا، إذ يقحمنا مرارا، نحن المسلمين، في أحداث ووقائع مستفزة قد يكون من نتائجها جنوح البعض إلى الرد العنيف، بحجة الغيرة على الدين والغضب لمحارم الله متناسين هدي النبي الكريم وسماحته وإعراضه عن الجاهلين ورحمته.. صفات لانت بسببها قلوب قاسية، واهتدت عقول ضالة إلى سواء السبيل.
إننا نعي جيدا أن القبضة الغربية العنيفة تجاه هويتنا الثقافية والعقائدية، غايتها توليد ردات أفعال هنا وهناك، وإلصاق صفة “الإرهاب” بالدين الإسلامي، وكم من فعل أثبتت الأيام أنه كان مجرد افتعال من أجل أخذه مطية لضرب المسلمين ومن ورائهم الإسلام، وإذكاء روح الحقد والكراهية بين الشعوب.
وإنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها؛ لذلك توجب علينا أن نقابل ما يحاك ضدنا بالرفق والحلم والصبر والحنكة والحكمة، بعيدا عن العنف والعنف والمضاد الذي من شأنه أن يشعل شرارة وسعير نيران الحقد بين الناس..
إننا نعيش امتدادا لمسار عنصري تحريضي تاريخي، ذهب ضحيته آلاف المسلمين، ولنتذكر “البابا أوربان الثاني” الذي وصف المسلمين بأنهم “جنس ملعون، جنس ضال عن سبيل الله”، حيث ألقى، قبل ثمانية قرون، خطابا ناريا أشعل به شرارة حروب دامت لقرنين كاملين ضد المسلمين المشارقة، كانت نتيجتها ثماني حملات وحشية أعدها الأوروبيون تحت لواء الصليب، ذبح فيها سبعون ألفاً من المسلمين، وأغرقت دروب القدس بدماء العرب كما يحكي المؤرخون، وخاضت الخيول حتى الركب في السائل الأحمر. ثم يأذن الله بعد مائة عام من الاحتلال والاضطهاد والتعسف بطرد الصليبيين من القدس على يد صلاح الدين الأيوبي، فينبهر المؤرخون الأوروبيون بحلم القائد الكبير بأعدائه، ويَسقط حينها الادعاء القائل بأن “المسلم متى كان وحيثما كان متعصب متعطش للدماء” (2).
وإلى يومنا هذا ما يزال الغرب اللائيكي يشُنُّ حروباً استئصالية بطرق وصور مختلفة على العالم الإسلامي، يغذي أحاسيس البغض والعداء القديم، لأن ما غرسه التاريخ العتيق في ذاكرة الشعوب لا يمكن اجتثاثه، وأصبحت اللائيكية قلب الحداثة الفرنسية من أخبث الأسلحة الأيديولوجية الإقصائية الغربية…
فالحدة اللائيكية التي تتميز بها فرنسا خصوصا جذورها ضاربة في أطناب الدول العربية؛ مستعمراتها السابقة، فبعد تدخلها المسلح في كياننا كمسلمين وقوانين بلداننا، تمكنت أن تترك فينا، بعد انسحابها العسكري، حمَلة لفكرها من بني جلدتنا، مما ساهم في انشطار وحدة الأمة الإسلامية، واعتقل الإسلام في المسجد، وقيدت حركة المسلمين الأفذاذ خارجه، مما أدى إلى تفكيك الدول الإسلامية على المستوى الأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي.. وتراجع المسؤولية الجماعية تجاه الأمة الإسلامية، وازدياد التفاوتات بين الناس، هذا الانشطار جر المجتمعات العربية إلى التخلف، ودفعنا تحت سلطوية الاستكبار الغربي والاستبداد الداخلي في تبني “النموذج الغربي كنموذج تنموي فكانت النتيجة إقحام مجتمعاتنا العربية والإسلامية في عملية اصطناعية شديدة التعقيد وباهظة التكاليف الحضارية والأدبية والمعنوية، أدت فيما أدت إليه لتمزق اجتماعي وغياب الأهداف الأساسية واهتزاز منظومة القيم الإنسانية التي كانت تشكل عامل استقرار وتثبيت لمجتمعاتنا” (3). سرنا وراء ركبهم فتعثرت خطانا وتمزقت أوصالنا وبذرت أموالنا وهانت عزائمنا وشلت حركتنا، وبعدما كنا فاعلين في حلبة التاريخ أصبحنا بضاعة تابعة.
ولذلك يقع علينا، في وقتنا الحالي، التصدي لقتال جرثومة المرض، لأن الانشغال بأعراضها جهد ضائع وكرة خاسرة (4). والعبرة بالتاريخ سمة يتحلى بها أولو الأبصار، وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ صدق الله العظيم.
1- رواه الطبراني.
2- عبد السلام ياسين، الإسلام والحداثة، ص 84-85-86. بتصرف. موسوعة siraj.net.
3- عبد الله النفيسي، على صهوة الكلمة.
4- نفس المصدر.