الاتباع النبوي

إن سر القرآن الكريم ولبابه الأصفى ومقصده الأقصى دعوة العباد إلى الجبار الأعلى، رب الآخرة والأولى، خالق السموات العلا والأرضين السفلى وما بينهما وما تحت الثرى. ومن خصائص القرآن أنه معجز قطعي الثبوت، يتعبد بتلاوته، وهو رسالة الله إلى الإنسانية كافة. ثم إنه من تمكن من قلبه حب الله ورسوله صار حب القرآن خلقه ورائده؛ فهو ذكر يربي الإرادة، وعلم وعمل، كما الإيمان علم وعمل، وهو زينة القلوب، ولا يتم هذا إلا بالاتباع النبوي.
قال الله تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (آل عمران، الآية: 31). جاء في معاجم اللغة العربية في شرح كلمة تبع واتبع معاني كثيرة؛ منها التلو واللحوق، والسير في إثره والاقتداء به.
وقال تعالى: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (الأحزاب، الآية: 21). والأسوة هي القدوة؛ قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: “هي اتباع الغير على الحالة التي يكون عليها حسنةً أو قبيحة” (1)، وقال ابن منظور: “الأُسوةُ والإسوةُ: القدوة، ويقال: ائتسي به، أي: اقتدِ به، وكن مثله” (2).
من خلال هذه المعاني نخلص إلى أن الاتباع المقصود في قوله تعالى: إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله هو السير في أثر رسول الله والكينونة على قدمه صلى الله عليه وسلم.
جعل الله سبحانه وتعالى اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم يفضي إلى محبة الله تعالى، وهذا إخبار بعظم محبته سبحانه وتعالى لنبيه، وبكونها فوق كل محبة، لذا كان خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لأمته باتباعه هو في الحقيقة خطاب من الله تعالى لعباده بالاتباع ليفوزوا بمغفرته ورحمته.
إن آية الاتباع تفيد الطريق والغاية، والدليل والنتيجة، فالطريق اتباع الشريعة، والغاية محبة العبد لربه ومحبة الله لعبده؛ محبة متبادلة. فمن اتبع الرسول لا يطيع الرسول فقط، بل يطيع الله رب العالمين، لذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم كمال الإيمان الذي يوجب هذه المحبة فقال: “أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما” (3)، فالمحب المتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم يجعله قدوة في حياته كلها؛ عبادة ومعاملة وإحسانا.
وبما أن اتباع النبي في حاله مع القرآن وخلقه صلى الله عليه وسلم أساس بناء الشخصية المؤمنة فإننا سنكتفي بمعالجته.
قال الله تعالى: قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين (المائدة، الآية 15).
إن محمدا صلى الله عليه وسلم هو النور الأعظم الذي أرسله ربنا سبحانه لينير لنا طريق الصلاح والفلاح دنيا وأخرى مستمسكا بالكتاب المبين المحيط بكل مناحي الحياة، ومن أهم مهامه صلى الله عليه وسلم الأساسية قوله: “إنما بعثت معلما” (4)، وأكد الله تعالى هذا الأمر بقوله: هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة (الجمعة، 2).
ولقد استغرقت مهمة تعليم القرآن حياته صلى الله عليه وسلم، وحرص حرصا شديدا على أن يحفظ المسلمون القرآن ويستوعبوه فهما وتطبيقا، لذلك جعل مقياس الخيرية القرآن، فقال: “خيركم من تعلم القرآن وعلمه” (5) و“أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه” (6).
وإن القرآن الكريم؛ رسالة الله إلى الإنسانية كافة، يطلب منا اتباع سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعلمه وإتقانه؛ تلاوة وترتيلا وفصاحة واستماعا وتمثلا وخدمة، بتعليمه الناس، فنصير بحفظنا مدرسة قرآنية متنقلة عبر الأجيال، نحيى بالقرآن ونحيي به الأجيال، نُحَفظه ونَحفظه قبل مماتنا.
لقد كان صلى الله عليه وسلم وما يزال قدوتنا في الأخلاق، فقد كان قرآنا يمشي على الأرض، أي أنه عمل بأخلاق القرآن، وتمثل آدابه، حيث إن القرآن أنزل للتدبر والعمل به، فكان سيد الخلق أولى الناس عملا به وامتثالا لأوامره. لذا كانت بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم لإتمام مكارم الأخلاق، قال صلى الله عليه وسلم: “إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق” (7)، وفي رواية “مكارم الأخلاق”، ورواه الإمام مالك بلفظ “حسن الأخلاق”.
ولقد أيد الله تعالى سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم وهيأه فجعله على خلق عظيم، أشاد بعظمته في كتابه العزيز، وشهدت بذلك أمنا عائشة رضي الله عنها حيث قالت: “كان خلقه القرآن” (8). وعاش المسلمون أجمعون في كنف هذا الكمال الخلقي.
ويعد امتلاك النفس رأس الخلق الكامل، لذا كان صلى الله عليه وسلم لا يغضب إلا إذا انتهكت حرمات الله. وبالخلق الكريم أوصى صلى الله عليه وسلم أصحابه وأحبابه؛ “أحسن خلقك للناس” (9)، فبه يدرك المؤمن درجة الصائم القائم، وبه يكمل إيمان المؤمن. كما بشر صلى الله عليه وسلم الكاملين في الأخلاق بأنهم من أحبابه والأقرب منه مجلسا يوم القيامة. لكن هذه الوصايا عند تنزيلها لأرض الابتلاء والاختبار تحتاج صبرا وصدقا وثباتا حتى تثمر التأسي به صلى الله عليه وسلم واتباع خطاه.
وفي الأخير نذكر بعضا من نماذج الصحابة رضي الله عنهم الذين صدقوا في اتباعهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتسم بالقسوة والغلظة في الجاهلية، لكن اتصاله برسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعه له جعله يصبح رقيق المشاعر عبقري الفكر، واستعمل قوته في الحق حتى أصبح رمز العدل المزاوج بين الحزم والرحمة، وصاحب الأفق الواسع ذو الفراسة الصادقة. وكذا سيدنا عبد الله بن مسعود، نحيل الجسم دقيق الساق راعي الإبل في الجاهلية، سادس ستة دخلوا في الإسلام، دفعه اتباعه لنور النبوة واحتضانه من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوة الإيمان، فكان أول من جهر بالقرآن الكريم عند الكعبة بعد رسول اللـه صلى الله عليه وسلم، هاجر هجرتي الحبشة والمدينة وشهد بدرا، وكان من علماء الصحابة الحفظة البارعين، قال عنه سيدنا رسول الله: “من أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد” (10)، وكان فقيها محدثا حتى صار مؤسس أكبر مدرسة في الفقه الإسلامي التي تخرج منها الإمام أبو حنيفة النعمان.
إن الاتباع النبوي أساسه التعظيم والتقدير والتوقير والمحبة للمبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وسلم، فقد كان بمثابة الوالد يعلمنا كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي: “إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم” (11).
فاللهم ارزقنا محبة رسول الله وحسن التأسي به، واشملنا بإجابة دعائه صلى الله عليه وسلم: “واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت”.
والحمد لله رب العالمين…
(1) أضواء البيان 8 / 135 نقلا عن موسوعة نضرة النعيم: 2 / 349.
(2) لسان العرب 14 / 35نقلاً عن موسوعة نضرة النعيم: 1 / 349.
(3) من حديث “ثلاثٌ مَن كُنَّ فيهِ وجدَ بِهِنَّ طعمَ الإيمانِ، مَن كانَ اللَّهُ ورسولُهُ أحبَّ إليهِ مِمَّا سواهُما، وأن يُحبَّ المرءَ لا يحبُّهُ إلَّا للَّهِ، وأن يَكْرَهَ أن يعودَ في الكفرِ بعدَ إذ أنقذَهُ اللَّهُ منهُ كما يَكْرَهُ أن يُقذَفَ في النَّارِ” أخرجه البخاري (16)، ومسلم (43)، والترمذي (2624) واللفظ له، والنسائي (4987)، وابن ماجه (4033)، وأحمد (12021).
(4) رواه ابن ماجة برقم 229 في حديث عبد الله بن عمرو، وفي سنده ضعف.
(5) رواه البخاري، 5027.
(6) تخريج مشكل الآثار، 5124.
(7) رواه أبو هريرة، مجمع الزوائد8/191، رجاله رجال الصحيح.
(8) أخرجه أحمد (24601)، وأبو يعلى (4862)، والطحاوي في (شرح مشكل الآثار) (4435).
(9) أخرجه أحمد (21988)، ومالك في (الموطأ) (2/902)، والبيهقي في (شعب الإيمان) (8029).
(10) عن عبد الله بن مسعود، صحيح ابن ماجة، 114.
(11) صحيح الجامع، 2346.