محبة النبي ﷺ: معناها وثمارها

بحلول شهر ربيع الأول الأبرك تنشرح القلوب بذكر خير الأنام سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، فبذكره تتنزل الرحمات وتطيب الأوقات وتتنسم الأرواح طيب النفحات، وتسعد النفوس بذكره في كل الأوقات، كيف لا تنشرح الصدور وتطمئن القلوب وهو الرحمة المهداة للعالمين، وقد حباه الله بأجمل الأوصاف والنعوت.
فهوﷺ رحمة للعالمين لقوله تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (سورة الأنبياء، آية 106). وهوﷺ رؤوف رحيم، لقوله تعالى بالمؤمنين رؤوف رحيم (سورة التوبة، آية 129). وحباه الله بأفضل الأخلاق، قال تعالى وإنك لعلى خلق عظيم (سورة القلم، آية 4). ورفع الله مقامه وأعلى شأنه وذكره في قوله تعالى: ورفعنا لك ذكرك (سورة الشرح، آية 4)، فمن كانت هذه أوصافه مالت القلوب لمحبته، وامتلأ الفؤاد شوقا إليه.
وجوب محبة النبي ﷺ
حب النبي ﷺ شرط وسبب لنيل محبة الله تعالى، كيف لا والله تعالى قرن محبته بمحبة نبيه، وجعل فلاح المؤمن لا يتحقق إلا بولوج باب الحبيب المصطفى محبة وتقديرا وتعظيما، قال تعالى: قُل إِن كانَ آباؤُكُم وَأَبناؤُكُم وَإِخوانُكُم وَأَزواجُكُم وَعَشيرَتُكُم وَأَموالٌ اقتَرَفتُموها وَتِجارَةٌ تَخشَونَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرضَونَها أَحَبَّ إِلَيكُم مِنَ اللَّـهِ وَرَسولِهِ وَجِهادٍ في سَبيلِهِ فَتَرَبَّصوا حَتّى يَأتِيَ اللَّـهُ بِأَمرِهِ وَاللَّـهُ لا يَهدِي القَومَ الفاسِقينَ (سورة التوبة، الآية 24)، قال القرطبي أن في الآية “دليل على وجوب حب الله ورسوله، ولا خلاف في ذلك بين الأمة، وأن ذلك مقدم على كل محبوب”، وهكذا فإن الآية جمعت بين المحبة الواجبة لله ولرسوله وبين الجهاد في سبيل الله، فكل ما يحبسك من علائق الدنيا وملذاتها ومباهجها عن حب الله ورسوله وعن السلوك الجهادي لنصرة الإسلام، يجب الحذر منه، قال ابن عاشور في تفسيره أن في الآية: “ارتقاء في التحذير من العلائق التي قد تفضي إلى التقصير في القيام بواجبات الإسلام”.
وتأكيدا لنفس المعنى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين” (رواه البخاري). وحب النبي ﷺ لا ينحصر في من نالوا شرف صحبته فقط، بل إن نور محبته ممتد عبر قلوب أوليائه وأصفيائه جيلا بعد جيل، وقافلة المحبين لرسول الله مستمرة، لا يزيدهم طول العهد وامتداد الزمان إلا شوقا وحبا لرسول الله ﷺ، ففي الحديث المروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: “من أشد أمتي لي حبا ناس يكونون بعدي، يود أحدهم لو رآني بأهله وماله” (رواه الإمام مسلم).
وهكذا فإن ميل القلب لمحبة النبي ﷺ وانشغاله بذكره وجعل المحبوبات الأخرى تبعا للحب الأعظم، حب الله ورسوله، يعتبر من كمال الإيمان، ودليلا على صدق المؤمن في سلوكه وتوجهه نحو استكمال شعب الإيمان، وفي هذا الصدد أورد حديثا رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن هشام قال: “كنا مع النبي ﷺ وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي ﷺ: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي ﷺ: الآن يا عمر”.
معنى المحبة للنبي ﷺ
يجب أن يكون النبي ﷺ أحب إلينا من أنفسنا ومن كل شيء، لكن ما حقيقة وما معنى هذه المحبة؟ عقد القاضي عياض في كتابه (الشفا بتعريف حقوق المصطفى ﷺ) فصلا خاصا في معنى المحبة للنبي ﷺ وحقيقتها، فبين رحمه الله أن: “حقيقة المحبة الميل إلى ما يوافق الإنسان”، وأن هذه المحبة لها أسباب وكلها متوفرة في رسول الله وهي: “جمال الصورة والظاهر، وكمال الأخلاق والباطن، ثم إحسانه وإنعامه على أمته”. ثم أورد بعض الأقوال في تفسير محبة النبي ﷺ يمكن إجمالها في أن المحبة اتباع الرسول عليه السلام، واعتقاد نصرته والذب عن سنته، ودوام الذكر له، والشوق إليه، وإيثاره على غيره ومواطأة القلب لمراد ربه فيحب ما أحب ويكره ما كره. و هكذا نخلص إلى أن محبة النبي ﷺ هي ميل القلب إلى جنابه الشريف والتعلق به والشوق إليه، وأن هذه المحبة لها علامات وثمار تعرف بها.
من ثمار وعلامات حب النبي ﷺ
1- طاعته واتباعه ﷺ: قال تعالى: ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما (سورة الأحزاب، آية 71)، وقال سبحانه في آية أخرى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم (سورة آل عمران، آية 31)، فالله تعالى قرن بين طاعته وطاعة نبيه وجعلهما سببا لنيل السعادة في الدنيا والآخرة، كما جعل اتباع نبيه والاقتداء به علامة تدل على حب المؤمن لله تعالى.
2- الاقتداء به ﷺ: قال تعالى: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (سورة الأحزاب، آية 21)، فهو صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة لمن ارتفعت همته لطلب ما عند الله تعالى، وتاقت نفسه للقاء الله تعالى، وأن يكون قدوتنا يعني متابعته في أخلاقه وعبادته وسلوكه واتباع أوامره وسنته واجتناب ما ذمه ودعانا لتركه.
3- نصرته ﷺ: حق لكل مسلم أن ينصر النبي المحبوب ﷺ تعبيرا عن حبه له، وإيمانا بما جاء به، وتتأكد النصرة كلما اشتد كيد الأعداء وكشروا عن أنيابهم للنيل من جنابه الشريف الطاهر، ولنصرته مظاهر عديدة يمكن تلخيصها في محبته وطاعته ونشر سيرته العطرة والتخلق بأخلاقه والذب عن سنته، ومواجهة حملات الأعداء النكراء بالرفق والحكمة والموعظة الحسنة، فما علت حملتهم إلا لما رأوه من إقبال الناس على دين الإسلام، وترشيحه ليحل مكان الخراب النفسي والأخلاقي والقيمي الذي سببته الحضارة الغربية التي فشلت في إسعاد الإنسانية.
4- التخلق بأخلاقه ﷺ: فقد زكى الله تعالى أخلاق نبيه ﷺ فقال سبحانه: وإنك لعلى خلق عظيم (سورة القلم، آية 4)، وقال ﷺ: “إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق” (رواه أحمد). ففي وسط الأزمة الأخلاقية العالمية، أو الإفلاس الأخلاقي للمنظومة العالمية بقيادة الغرب، ينبري المسلمون لإعطاء نموذج أخلاقي ينقد البشرية من الخراب العمراني الذي يهدد الإنسانية، ولن يرقى المسلمون إلى صدارة قيادة الإنسانية إلا بالتخلق بأخلاق المصطفى ومنها: الرفق، والصدق، والرحمة، والعدل، والحلم، والشجاعة، والتواضع، والكرم، والحياء، والصبر، ونصرة المستضعفين.
5- الصلاة عليه ﷺ: فقد أمر الله تعالى بالصلاة على نبيه محمد ﷺ قائلا: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما (سورة الأحزاب، آية 56)، لذا يجب الإكثار من الصلاة على رسول الله ﷺ بالصيغ المأثورة، لما في الصلاة عليه من الأجر والثواب، قال الرسول ﷺ: “البخيل من ذكرت عنده ثم لم يصل علي” (أخرجه الترمذي). فدوام ذكره بالصلاة عليه علامة على محبته والشوق إليه عليه أفضل الصلاة والسلام.
وفي الختام نسأل الله تعالى أن يرزقنا محبة نبيه ﷺ، وأن يوفقنا إلى إدراك معناها وحقيقتها، ويجعلنا من الذين يسعدون بالصلاة عليه في كل وقت وحين. اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.