غارت أمكم

عن أنس رضي الله عنه قال: “كان النبي صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بِصَحْفَةٍ (وعاء يؤكل فيه ويثرد) فيها طعام، فضربت التي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها يد الخادم، فسقطت الصحفة، فانفلقت، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فلق الصحفة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ويقول: “غارت أمكم”، ثم حبس الخادم حتى أتي بصحفة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصحيحة إلى التي كسرت صحفتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كَسَرَتْ”. (حديث رواه البخاري، 5225).
في هذا الحديث من الدلالات والعبر التربوية ما تندهش له العقول، ويشد القلوب، ويلفت الأنظار إلى خلق رفيع وحكمة بالغة ممن كان خلقه القرآن صلى الله عليه وسلم، في موقف قد يَحْكُمُ عليه كثير منّا بسوء أدب وقلة حياء.
إنها عائشة ابنة الصديق؛ إحدى أمهات المؤمنين رضي الله عنها، والتي كان سيدنا رسول الله في بيتها حين أرسلت إحدى ضرائرها بصحفة فيها طعام إلى زوجها النبي ومعه ضيوفه وهو في بيتها، فما كان منها إلا أن ضربت يد الخادم حتى سقطت الصحفة وانكسرت و تشتّت طعامها، فهل انتهرها النبي لفعلتها؟ وهل غضب منها حين لم تحترم وجوده بين أصحابه وأمام ضيوفه؟ هل توعّد وأزبد وأرعد؟ حاشاه صلى الله عليه وسلم، فما كان منه عليه الصلاة والسلام إلا أن التفت لضيوفه قائلا: غارت أمكم، غارت أمكم، في اعتذار سلس للضيوف حتى لا يُحمل صنيعها على ما يذم، بل هو ما جرت به العادة بين الضرائر من الغيرة التي لا يقدر المرء على دفعها، فبيّن حقيقة التصرف ومنشأه، وكان القدوة في تقدير الظرف والحيثية الباعثة على التصرف؛ وهي نفسية المرأة وما جُبلت عليه من الغيرة التي قد تجعلها تخطئ أحيانا، بل وضّح وأبان عن معان رفيعة في حسن معاشرته لزوجاته صلى الله عليه وسلم، فلم يرد كسر قلب زوجته بزجرها وتوعّدها، بل انحنى بكل تواضع يجمع ما تناثر من الطعام الذي كان في الصحفة التي انكسرت، وفي هذه أيضا دلالة تربوية لتواضع الزوج أمام أزواجه والناس أجمعين، فلم يأمرها أن تجمع هي الطعام وهي من كسرت الصحفة، ولا أمر الخادم بفعل ذلك، ثم أمر صلى الله عليه وسلم بأن يُؤتى بصحفة عائشة و بعث بها لمن كُسرت صحفتها عوضا لها، وهذا من تمام عدله صلى الله عليه وسلم.
إشارات تربوية جليلة وخلق رفيع لا يصدر إلا عمّن خلقه القرآن صلى الله عليه وسلم، فهل نتعظ ونفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بأن الرجولة معان جليلة، وخلق رفيع، ولين جانب، وعفو عند القدرة، وغض طرف عن الهفوات، وصبر على الزلات، وتواضع جم.
شدني المشهد كثيرا، وجعلت مخيلتي ترسم لي القصة بتفاصيلها فأتساءل وأقول: هل من الأزواج من يفعل ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل منهم من يصبر على من لم تنتبه لضيوفه ولا لشخصه في تصرف قد يرى فيه من الإهانة ما لا يطيقه؟ هل منهم من ينحني لجمع الطعام المتناثر بكل هدوء ويحرص على قلب زوجته بذل الحرص على هيبته واحترامه والتي لا أظنها إلا تزيد مع هذا الخلق العظيم؟
لا أنفي الخيرية عن أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فلا شك أن هناك من ذوي الأخلاق الرفيعة والسلوك السوي، من يقتدي بهدي نبينا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم، إلا أن هذه النماذج عزّت في زماننا، نرجو الله أن تحيى سنّته وأخلاقه صلى الله عليه وسلم في أمته، وبين رجالها ونسائها، شبابها وشيبها، حتى تكون خير أمة أخرجت للناس.