صدقه صلى الله عليه وسلم

ها قد حل شهر الأنوار ، شهر حق له أن يفتخر على سائر شهور السنة، ولد فيه خير الورى، الرسول المجتبى، الرحمة المهداة من رب العالمين، كرمه الله وشرفه ومدحه في كتابه العزيز، قائلا: “وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ” (القلم: 4)، فمكارم الأخلاق علامة لكمال الإيمان وسموه، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، أنه قال: أكْملَ المؤمنينَ إيمانًا أحسنُهُم خلقًا. وخيارُكُم خيارُكُم لنسائِهِم (1).
وقد بيّن عليه الصلاة والسلام أن بعثته كانت لإتمام مكارم الأخلاق، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال صلى الله عليه وسلم: “بُعِثتُ لأُتَمِّمَ صالِحَ الأخْلاقِ” (2).
للتعرف أكثر على هذه الأخلاق النبوية الشريفة سأبدأ بخُلق عرف به صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وكان دليلا على نبوته واصطفائه ليكون حاملا لرسالة الإسلام.
فما هو الصدق؟
وما هي المواقف الثابتة في السيرة النبوية العطرة، التي ظهر فيها جليا صدق الرسول؟
وكيف نتخلق نحن المسلمين بهذا الخلق النبوي العظيم؟
تعريف الصدق
معنى الصدق لغةً:
الصدق ضدُّ الكذب، صَدَقَ يَصْدُقُ صَدْقًا وصِدْقًا وتَصْداقًا، وصَدَّقه: قَبِل قولَه، وصدَقَه الحديث: أَنبأَه بالصِّدْق، ويقال: صَدَقْتُ القوم. أي: قلت لهم صِدْقًا وتصادقا في الحديث وفي المودة (3).
معنى الصدق اصطلاحًا:
الصدق: “هو الخبر عن الشيء على ما هو به، وهو نقيض الكذب” (4).
وقال الباجي: (الصدق الوصف للمخبَر عنه على ما هو به) (5).
وقال الراغب الأصفهاني: (الصدق مطابقة القول الضمير والمخبَر عنه معًا، ومتى انخرم شرط من ذلك لم يكن صدقًا تامًّا) (6).
فالصدق صفة أساسية في حياة المؤمن، وهو رأس الفضائل، وعنوان الصلاح والفلاح. أثنى الله تعالى على مَن لزمه فصار له خُلقًا، فقال سبحانه: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ (الحديد: 19).
صدقه صلى الله عليه وسلم
كان صلوات الله عليه وسلم مثالا وقدوة في الصدق، فقد لقب قبل البعثة بالصادق لحرصه الشديد على قول الحقيقة وفعل الصواب، فكانوا يصدقونه في كل شيء.
شهد له بذلك النضر بن الحارث، أشد قريش عداوة للرسول صلى الله عليه وسلم، حين قام خطيبًا في سادة قريش قائلا: “يا معشر قريشٍ، إنه والله قد نَزَلَ بكم أمرٌ ما أَتَيْتُم له بحيلة بَعْدُ، قد كان محمدٌ فيكم غلامًا حدثًا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثًا…” (7).
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: لما نزل قول الله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (الشعراء: 214)، صعد النبي صلى الله عليه وسلم عَلَى الصَّفَا فجعل ينادي: يَا بني فِهْرٍ، يَابني عَدِيٍّ – لبطون قريش – حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما الأمر؟ فجاء أبو لهب وقريش، فقال صلى الله عليه وسلم: أرأيتكم (أخبروني) لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مُصَدِّقِيَّ؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا!! (وفي رواية قالوا: ما جربنا عليك كذبا)، قال: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبّاً (هلاكاً) لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا، فَنَزَلَتْ: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (المسد، 2-1)“ (رواه البخاري). عايشوه أربعين سنة فشهد له بالصدق العدو قبل الصديق.
وكان صلى الله عليه وسلم صادقًا في كل أحواله؛ حتى في الدعابة، فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنِّي لأمزح، ولا أقول إلَّا حقًّا” (8).
وفي صحيح أبي داود (4998): “أنَّ رجلًا أتى النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقال: يا رسولَ اللهِ، احمِلْني، قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «إنا حاملوكَ على ولدِ ناقةٍ»، قال: وما أصنع بولدِ الناقةِ؟ فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: «وهل تلدُ الإبلُ إلا النوقَ».
وعن الحسن البصري أيضا: أتتْ عجوزٌ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقالتْ: يا رسولَ اللهِ ادعُ اللهَ أن يُدخلَني الجنَّةَ، فقال: يا أمَّ فلانٍ إنَّ الجنَّةَ لا تدخُلها عجوزٌ، قال: فولَّتْ تَبكي، فقال: أخبِروها أنها لا تدخلُها وهي عجوزٌ إنَّ اللهَ تعالى يقول: إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً، فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا، عُرُبًا أَتْرَابًا (الواقعة: 35-37) (9).
بل وحتى في الحرب حافظ الصادق عليه الصلاة والسلام على صدقه، قال ابن كثير (السيرة النبوية: 2/396): “خرج رسول الله ومعه أبو بكر الصديق ليتعرَّفَا أخبار قريش، فوقفا على شيخٍ من العرب فسأله رسول الله عن قريشٍ وعن محمدٍ وأصحابه، وما بلغه عنهم، فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما؟ فقال رسول الله: «إذَا أَخْبَرْتنَا أَخْبَرْنَاكَ». قال: أذاك بذاك؟ قال: «نَعَمْ»، قال الشيخ: فإنه بلغني أن محمدًا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني، فهم اليوم بمكان كذا وكذا -للمكان الذي به رسول الله- وبلغني أن قريشًا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذي أخبرني صدقني فهم اليوم بمكان كذا وكذا -للمكان الذي فيه قريشٌ-، فلمَّا فرغ من خبره قال: ممن أنتما؟ فقال رسول الله: «نَحْنُ مِنْ مَاءٍ». ثم انصرف عنه..”، والله تعالى قال: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء من الآية: 30]، وهذا ما كان يقصده الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «نَحْنُ مِنْ مَاءٍ»، وبهذا يكون صدق في حديثه للرجل.
وعندما جاءه وفد هوازن مسلمين كان أول تعليماته إليهم صلوات ربي عليه: «أَحَبُّ الحديثِ إليَّ أصدقُهُ..» (10).
ويكفيه صلى الله عليه وسلم شهادة ربه عز وجل، قال تعالى: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (الزمر: 33)، جاء في تفسير القرطبي: قال ابن زيد ومقاتل وقتادة: الذي جاء بالصدق: النبي – صلى الله عليه وسلم -، وصدق به المؤمنون. واستدلوا على ذلك بقوله: “أولئك هم المتقون” كما قال: “هدى للمتقين”. وقال النخعي ومجاهد: الذي جاء بالصدق وصدق به المؤمنون الذين يجيئون بالقرآن يوم القيامة فيقولون: هذا الذي أعطيتمونا قد اتبعنا ما فيه، فيكون الذي على هذا، بمعنى جمع، كما تكون من بمعنى جمع.
عليه صلوات الله وسلامه، صدق الله فصدقه الله، طلب رضى الله والفوز به فجد واجتهد، وتقرب إلى مولاه بالفرض والنفل و الإخلاص والجهاد بالنفس والنفيس، فقربه الله وجعله حبيبه وخير خلقه.
صدق مع نفسه فزكاها، فأخذ بالأسباب وشمر وقام الليل حتى تورمت قدماه الشريفتان صلوات الله عليه وسلم، وأيقن أن المنعم والموفق والهادي هو الله تعالى، فلم يتجبر ولم يتكبر ولم يغتر، وصدق مع الخلق في القول والفعل، فكان لا يقول إلا الحق وكان ظاهره موافقا لباطنه فحاز المكانة العالية والمقام المحمود.
كيف نتخلق بخلق الصدق؟
1- الصحبة الصالحة: ويكون ذلك بصحبة الصادقين ومجالستهم والاقتداء بهم، فهم الوارثون والعلماء العاملون، قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (التوبة: 119)، فالكينونة مع الصادقين تورث التخلق بخلق الصدق.
2- الإكثار من ذكره تعالى بالدعاء والاستغفار والتوبة والعبادة، قال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (غافر: 60)، جاء في تفسير الطبري: وقوله: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) يقول تعالى ذكره: ويقول ربكم أيها الناس لكم ادعوني: يقول: اعبدوني وأخلصوا لي العبادة دون من تعبدون من دوني من الأوثان والأصنام وغير ذلك (أَسْتَجِبْ لَكُمْ) يقول: أُجِبْ دعاءكم فأعفو عنكم وأرحمكم.
3- تحري الصدق دوما في القول والفعل والنية، بمجاهدة النفس ومخالفتها واستحضار مراقبة الله تعالى وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم والأنبياء والصالحين، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال، قال صلى الله عليه وسلم: “عليكم بالصِّدقِ فإنَّ الصِّدقَ يَهدي إلى البرِّ وإنَّ البرَّ يَهدي إلى الجنَّةِ وما يزالُ الرَّجلُ يصدقُ، ويتحرَّى الصِّدقَ حتَّى يُكتبَ عندَ اللهِ صدِّيقًا، وإيَّاكم والكذبَ فإنَّ الكذبَ يَهدي إلى الفجورِ، وإنَّ الفجورَ يَهدي إلى النَّارِ، وما يزالُ العبدُ يَكذبُ ويتحرَّى الكذبَ حتَّى يُكتبَ عندَ اللهِ كذَّابًا” (11).
ختاما أؤكد على أهمية التخلق بهذا الخلق، فهو سفينة النجاة من النفاق وغضب الله ورسوله. والمؤمن لا يكون إلا صادقا، تقيا، نقيا، حريصا على كل ما يقربه لله تعالى. فاللهم اجعلنا على خطى حبيبك المصطفى؛ صادقين مصدقين، وارزقنا الثبات حتى الممات.
(1) رواه الترمذي في صحيحه، حديث رقم: 1162، و هو حديث حسن صحيح.
(2) رواه جلال الدين السيوطي في صحيح الجامع، حديث رقم: 2833، و هو حديث صحيح.
(3) ابن منظور، لسان العرب، (10/193). انظر موقع الدرر السنية:
https://www.dorar.net/akhlaq/831/معنى-الصدق-لغة-واصطلاحا
(4) ابن عقيل، الواضح في أصول الفقه، (1/129).
(5) الباجي، إحكام الفصول، (ص 235).
(6) الراغب الأصفهاني، الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص 270.
(7) ابن هشام، السيرة النبوية، 1/199.
(8) رواه الطَّبراني في ((المعجم الصَّغير)) (2/59). وحسَّن إسناده الهيثمي في ((مجمع الزَّوائد)) (8/92)، وصحَّحه الألباني في ((صحيح الجامع)) (2494).
(9) السلسلة الصحيحة للألباني، الصفحة أو الرقم: 6/1221، وهو حديث مرسل ضعيف.
(10) صحيح البخاري، 3131.
(11) رواه البخاري في صحيحه، حديث رقم: 6094.