ذاك الحبيب.. روحي له الفدا

أية رحمة أسمى من تلك التي بعثك الله بها؟ أي نور أسنى من نور الإيمان الذي زرعته في أراضي قلوب قاحلة جدباء مقفرة، فصارت يانعة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها؟ أي كمال أعظم من كمالك، أنت الذي أدبك ربك فأحسن تأديبك؟ أي خلق أكرم من خلقك يا من كان خلقه القرآن؟
يا رسول الله، يا من عليه سلام الله وصلاة الله، بأبي أنت وأمي، بأهلي وولدي يا حبيبي، روحي لك الفدا. مهما خطَطْنا من الكلمات فلن تفي بالمراد ولن تكون إلا اعترافا بالعجز في الإحاطة بكل كمالاتك، بعظيم سرك، ببحر جودك، بنور قلبك، بسعة صدرك، بتواضع جنابك، بجميل سريرتك، برحمتك، برفقك… أو لست من ناجيت خليلك سبحانه في قولك: “اللهم اهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عن سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، تباركت وتعاليت” [رواه مسلم رضي الله عنه].
لنقف يا سيدي عند درر من فضائلك، لن تزيدنا إلا إجلالا وإكبارا لجنابك، وتعظيما لمقامك، وتشويقا لطلعتك ولمعة لأفئدة المؤمنين، مهما ادعى المُغرِضون ومهما زيف الحقائقَ الجاهلون، وانتحل المبطلون، مهما اختلفت الأغراض والدوافع، بين من يهدف الإساءة ومن يقصد إلهاء الشعوب، شعوب قد اجتمعت على محبتك، على الولاء لك وعلى نصرتك، وصدقت وهي ترفع الصوت عاليا “كلنا لك فداء”، وإن حادت في الكثير من ردود أفعالها عن حكمتك ورفقك… عن خلقك العظيم الذي نقف فيما يلي مع بعض مظاهره: الرحمة والرفق.
رحمته صلى الله عليه وسلم
فاضت كتب السيرة والشمائل بما يدل على رحمته صلى الله عليه وسلم في كل جوانب الحياة، وفي مختلف العلاقات والوشائج، فإذا كان الله عز وجل قد وصفه بقوله: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة، 129]، فقد ورد في الصحاح أحاديث جمة تدل على هذا الخلق الرفيع، منها ما أورده البخاري عن عطاء بن يسار قال: “لقيت عبدَ الله بنَ عمرِو بنِ العاص رضي الله عنه فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، فقال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غُلفا). عفو، سميح، رحيم، رفيق، هين، لين، ليس بالصخاب ولا الطعان ولا اللعان، يأبى أن يحق الله العذاب ولو بمخالفيه، ولو بمكذبيه، عسى الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله حقا، لا يدعو عليهم بل يدعو الله لهم: “اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون” [متفق عليه].
أخرج الإمام مسلم رضي الله عنه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله، ادع على المشركين، قال: “إني لم أبعث لعانا، وإنما بعثت رحمة”. وكان صلى الله عليه وسلم يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم، ويعود مرضاهم، ويطمئن على أحوالهم، ويشهد جنائزهم. أخرج النسائي: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور الأنصار، ويسلم على صبيانهم، ويمسح رؤوسهم).
رفقه صلى الله عليه وسلم
كان التبشير لا التنفير والتيسير لا التعسير، وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم الدائمة لمن بعثه في بعض أمره، وقد بلغ رفق رسول الله صلى الله عليه وسلم مداه في كل أحواله، فها هو ذا يرفق بالأم فيتجوّز في صلاته حين يسمع بكاء وليدها. وهاهو ذا صلى الله وعلى آله وسلم يوصي عائشة رضي الله عنها: يا عائشة “إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله”. وفي قصة الأعرابي الذي تبول في المسجد لعبرة وعظة، عن أنس رضي الله عنه في الحديث المتفق عليه قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصيحون به: مه مه (أي دع)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تزرفوه، دعوه” (أي لا تقطعوا عليه بوله)، فترك الصحابة الأعرابي يقضي بوله، ثم دعا الرسول صلى الله عليه وسلم الأعرابي فقال له: “إن المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر، إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن”، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: “إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين، صبوا عليه دلوا من الماء”، فقال الأعرابي: اللهم ارحمني وارحم محمدا ولا ترحم معنا أحدا، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: “لقد حّجرت واسعا”.
ومضات فحسب من بحر أنواره وأسرار خِلالِه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أسوقها لكم عساها تحمل الشوق لذلك الجناب الأسنى، وتبعث على سلوك سبيل المؤمنين المؤهلين للتزكية والاتباع، الذين وعوا قول الكريم سبحانه: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [آل عمران، 31].
أول خطوة على المحجة البيضاء في المنهاج النبوي، محبته وطاعته صلى الله عليه وسلم، فمن أحبه فقد ائتمر بأمر الله فتُفتح له أبواب فضل الله، ومن صلى عليه فقد ائتمر بأمر الله وحُق له أن يتعرض لرحمة الله، ومن لهج به وعكف على بابه فقد اهتدى ووُفي له الكيل وسار على درب الموكب النوراني، يقتحم العقبة سالكا مسالك الرجال. ومن وقف مع أنانيته يرد على الله في قرآنه فإنما هو محروم. [عبد السلام ياسين، “الإسلام غدا”، ص 171].