إحياء عيد المولد بعبق شمالي (قصة قصيرة)

تستيقظ للا البتول هذا الصباح، وكلها حيوية ونشاط. تخرج قفطانها الزهري الموشح بخيوط الفضة، لباس لا ترتديه إلا في الأيام المزهرة المضيئة كلونه..
تحرص على تعريضه لأشعة الشمس، أو تنظيفه وكيه إذا لزم الأمر، تختار وشاحا مناسبا للونه، ولا تنسى “الشربيل” الأبيض والحزام الفضي وخيوط “الجوهر الحر”، لتكتمل الحلة..
تنزل إلى الدور السفلي، تتناول فطورها على عجل، فما زالت هناك أشياء عديدة في انتظار إشرافها عليها..
وليمة العشاء يجب أن تليق بالمناسبة، وكافية لكل الحاضرات، بل زائدة أيضا.. فهناك من لا يستطيع الحضور من مرضى وعجائز ، أقعدهن المرض والضعف، ويجب أن يصلهن نصيبهن من الوليمة.
تطمئن على عجين “الفقاقص”، وتؤكد على النسوة استعمال ماء الزهر المقطر القادم من تطوان، والسمن البلدي المعتق في جرات الطين، وتتأكد من وفرة ونقاء حبات “النافع” و”الجنجلان”، وخلوها من كل شائبة.
مثل خلية نحل، يحرص الجميع على المشاركة في هذا العمل الدؤوب؛ نساء شابات وعجائز تقدم بهن السن، وأطفال أيضا جلبا للبركة ونيلا للأجر، فهي ليلة لا ككل الليالي.
عملية تنظيف الدجاج استعدادا لطهوه، وقصعات الكسكس المصطفة جنبا إلى جنب، ورائحة البصل المعسل بالزبيب، وأطباق من “الغريبة” و”المحنشة”. ورائحة “العود القماري” المنبعثة من باب الدار الكبيرة..
تلج سعاد الباب بنشاط وحيوية تسبقها صلاتها وتسليمها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتختمها للا رحيمو بزغردات متتالية رنانة، فتصدح حناجر النسوة عاليا:
“البشير النذير … السراج المنير
سيدنا محمد …صلى الله عليه”.
وتتعالى أصواتهن ما بين مديح وصلاة وتسليم.
ويحل الليل، وبعد صلاة العشاء مباشرة، تتقاطر الأفواج الواحد تلو الآخر معلنة بدأ ليلة الفرح بمولد الحبيب صلى الله عليه وسلم.
الكل في أبهى حلة، والجميع حريص على التزيي بأجمل لباس.
لبست أنا أيضا قفطانا ذهبيا يعود ليوم زفافي.. حرصت على لبسه، لأن اليوم عرس لا ككل الأعراس.
فتحت عيني على الدنيا لأجد هذه الليلة بكل طقوسها وجماليتها وارتباطها بحدث عظيم غيّر التاريخ وحرك بوصلة الدنيا في تجاه آخر.
تمتزج في الذاكرة صور من غبن عن المشهد وتساقطن كأوراق الخريف.. فتتقاطر دمعاتي حرى.
أستحضر أماكنهن.. لباسهن.. حضورهن وسمتهن.. كل ما في المكان ينطق بأسمائهن.
يخلو المكان، فيدل على قدر من كان فيه..
دقات الطبول المتواصلة.. تنفذ إلى القلب فتحرك لواعج العشق والحنين لأناس ذاقوا حبه فطرة.. فأنبت هياما به صلى الله عليه وسلم.. محبة خالصة غير مشوبة.
ثم تتعالى الأصوات..
“خرجوا ولاد النجار بالبنادر والعلام
بالبنادر والعلام
يشرفوا محمد.. النبي عليه السلام”.
“الصباح يصبح.. والملائكة تفرح
بخلق محمد.. عليه السلام”.
“افرح أ يامنة.. وشدي راسك .. وشدي راسك
وهنية يا للا …. على خلاصك”.
لتعلن عن اقتراب بزوغ الفجر.. وبعد الصلاة، تنطلق التبريكات.. معلنة حلول يوم لا ككل الأيام.. يوم منسم بعبق نبوي دائم لا يزول، وأنوار محمدية ساطعة منبعثة من قلوب محبة زادها الشوق حنينا إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وتنطلق الاستعدادات من جديد لإعداد عصيدة الفطور المحلاة بالعسل الحر.. زادتها أيادي الجدات حلاوة وصفاء يبقي طعمها عالقا بفم آكلها..
وتحرص للا البتول أن تختم ضحانا بحضرة قلبية يطغى فيها ذكر المحبوب عما سواه.. مرددة بوقار:
“أنا سيدي عندي طبيب.. ويعالجني بدواه
متولع بحب الحبيب.. سيدي رسول الله
انتم أهل السر العجيب.. ما تعطوني نرضاه
من يقصدكم حاشا يخيب.. أيا رجال الله”.
فرحة قلبية.. عظمتها النية، توارثها الأجيال أبا عن جد سنين طويلة.. يطعم فيها الطعام، ويكرم الضيف، ويسر الصغير والكبير بمولد خير البشر وأعظمهم، الهادي إلى الصراط المستقيم، الشافع المشفع، سيد ولد آدم، حبيبي وقرة عيني سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى ذريته وآل بيته وأصحابه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.