ما أوجع الفقد!

هكذا هو الموت، بالأمس كانوا هنا واليوم قد رحلوا، فراق على غير موعد لأحباب طالما تربعوا على عرش قلبك، صور تمر عبر شريط الذكريات تحمل من الابتسامات باقات ملونة، تومض في عينيك بريق الماضي الجميل. أتراهم يذوقون مرارة هذا الألم الذي يسحبهم من الحياة؟
الموت، ذلك اليقين الذي لا شك فيه، يسائلك ماذا أعددتَ ليوم الرحيل؟
أو بالأحرى، ماذا أعددتَ ليوم اللقاء؟
أجل، اللقاء العظيم في حضرة ذي الجلال والإكرام.
عندما تتطاير الصحف، ويؤتى لك بكتابك تتصفح بين دفاته تاريخ ذنوبك، عندما تقف بين الصفوف تنتظر الإذن بالهمس وتوشك أن تغرق في بحر خطاياك، عندما يتنكر لك الوالد والولد، عندما تجد نفسك أمام الحقيقة حيث يساق أهل النار إلى مصيرهم سوقا ويدخل أهل الفلاح إلى الجنة زمرا. عندما تنتهي كل الموازين ثم لا تجد لك عنوانا هناك… ساعتها فقط، تفَقَّد قلبك، أنت مع من أحببت، أَحِبَّهم هنا لتجدهم هناك، اصحبهم هنا ليأخذوا بيدك هناك، اصحب أرباب القلوب، لتجد لك قلبا هناك. وصية سيدنا علي كرم الله وجهه: (استكثر من معارفك من المؤمنين فرب معرفة في الدنيا هي بركة في الآخرة).
السابقون السابقون أولئك المقربون، السابقون المقربون سبقت لهم من الله البشارة، السابقون المبَشَّرون يستقبلون من يفد إليهم من أهل الدنيا، يسألونهم عن أحبابهم متدثرين بثياب من الفرح والحبور، “يا ليت قومي يعلمون”، الموعد الله، هناك حيث ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
عن وهب بن منبه قال: (إن لله في السماء السابعة داراً يقال لها البيضاء تجتمع فيها أرواح المؤمنين، فإذا مات من أهل الدنيا أحد تلقته الأرواح يسألونه عن أخبار الدنيا كما يسأل الغائب عن أهله إذا قدم عليهم). لله درها من أرواح طليقة مستبشرة بما عند الله تنتظرنا هناك لتأخذنا معها في رحلة البقاء!
أجمل من ذلك عندما تعلم أن ربك العلي في عليائه يتودد إليك وأنت في غمرة سكرات الموت، فعن ابن مسعود قال: إذا أراد الله قبض روح المؤمن أوحى إلى ملك الموت “أقرئه مني السلام” فإذا جاء ملك الموت يقبض روحه قال له: “ربك يقرئك السلام.”
ربك !!! يقرئك أنت !!!
أعظم به من سلام !
وأعظم بها من بشارة!
من أحب اللهَ أحب اللهُ لقاءه، ومن أحب الله لقاءه عجل له بالغنيمة وبشره. عن سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ أوَّل ما يُبشَّر به المؤمن في قبره أن يقال له: أبشر برضا الله والجنة، قدمت خير مقدم، قد غفر الله لمن يُشَيِّعُكَ إلى قبرك، وصدق من شهد لك، واستجاب لمن يستغفر لك).
حق لهذا المؤمن أن يطمئن وهو يرى نفسه قد قرت عينه بعطاء الله له. جاء في كتاب بشرى الكئيب بلقاء الحبيب للإمام السيوطي رحمه الله: [وعن مجاهد قال: (إن المؤمن لَيُبَشَّرُ بصلاح ولده من بعده لِتقَرَّ عينُه). وعن الضحّاك في قوله تعالى: لَهُمُ البُشرى في الحَياةِ الدُنيا وَفي الآخِرَةِ قال: (يعلم أين هو قبل الموت). وعن مجاهد في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ قال: (ذلك عند الموت)].
وحسب مجاهد: (لا تخافوا مما تقدمون عليه من الموت وأمر الآخرة، ولا تحزنوا على ما خلفتم من أمر الدنيا من ولد وأهل ودين، فإنا نستخلفكم في ذلك كله).
بهذا الأمر تقر عين المحتضر، بل تعجل روحه باللقاء تاركة سجن الجسد ومنطلقة نحو رحابة الملكوت، سائحة في جمال قدرته سبحانه تعانق أرواح المؤمنين الفرحين المستبشرين.
هكذا هو الموت، تحفة المؤمن وغنيمته. صحيح أنه يوجع أهل الفقيد لكنه في عرف العارفين الموصولين الواصلين تحرر أبدي من كثافة قبتنا البشرية، وطمأنينة وسكينة. في سورة الفجر: يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي.
هي نفس مطمئنة بما بشرت وبمن صحبت في دنيا الفناء، صحبة توقد همتها وترفعها لتزاحم الواقفين على باب الكرم الإلهي عساها تشم نفحة من عبق الإحسان. الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
إحسان موصول بجهاد يخطط لمستقبل أمة هي خير أمة أخرجت للناس، جهاد يتطلب من عقلك تدبيرا ومن ساعدك تشميرا ومن مالك بذلا ومن همتك إقبالا ومن قلبك رحمة ومن روحك طهرا وتزينا.
تحضرني أبيات من الشعر للإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى برحمته الواسعة وأسكنه فسيح جناته في منظومته الوعظية يقول فيها:
وَدَّ حِبُّ الإله مَوْتَ جهاد ** مَوْتَة بعد مَوتَةٍ بعدَ مَوْتَه
أكْسِبْ الأمَّة الشريفة مالا ** ونماءً والخِصْبَ فيها فَسَحْتَه
واغتَنِمْ عُمْرك النَّفِيسَ لِتَقْوَى ** أمَّةٌ بالجهاد فيما سَعَيْتَه