قراءة في فصل “الهجرة والنصرة” من كتاب “القرآن والنبوة” للإمام ياسين

قال سيد الخلق والحبيب الحق صلى الله عليه وسلم “إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي” رواه الإمام مالك.
أوضح حبيب الله صلى الله عليه وسلم مدى التلازم بين القرآن الكريم والنبوة الشريفة، وكانت حياته صلى الله عليه وسلم وحياة الصحابة الذين حظوا بالصحبة المباركة رضي الله عنهم مثلا حيا لهذا التلازم حتى جاء من أعلنها صريحة: أنا آخر خليفة وأول ملك. إنه الانكسار التاريخي المبكر الذي ابتليت به الأمة الإسلامية.
أطاح الانقلاب الأموي الغاشم بالخلافة الراشدة وأسس لملك عاض وراثي، الشيء الذي أثر سلبا على ذلك التلازم، فقد أحدث انفصاما بين القرآن الكريم باعتباره ذكرا وشرعا وأحكاما، والإرث النبوي الشريف باعتباره تجسيدا عمليا لذلك الوحي. هنا يبقى السؤال المطروح: كيف نعيد للقرآن الكريم وللنبوة الشريفة تلازمهما ودورهما المتكامل في تكوين جيل يحمل همّ التجديد الشامل ببعديه العدلي والإحساني؟
ولكي تكون قومة إسلامية على نمطها الأول قبل الانكسار، لابد من مرور كل مؤمن من مدرسة الشدائد؛ يتربى فيها تربية تمكنه من الانقطاع عن ماضيه السيء ومألوفات حاضره وراحته وعلاقته بكل ما يشده إلى الأرض وشهواتها ليرتبط بموعود الله عز وجل، ولتملأ جوانحه محبة الله والشوق إلى لقياه، فيهون عليه الموت ويهون عليه من دونها بذل المال والجهد. ومن هذه المدرسة مر المهاجرون والأنصار أفرادا، حتى آن أن يجتمع منهم جند الجهاد، تسري فيهم روح الجماعة، بعد أن أصبحوا تنظيما مرصوصا قوي الارتباط بأمر الله تعالى.
من حديث أخرجه أبو نعيم والطبراني أن المقداد بن الأسود قال: “لقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم في أشد حال بعث عليه نبي من الأنبياء” حيث كان ما تلقاه صلاة الله عليه في مكة وشعابها أكبر انعراج في صياغة شخصية إسلامية قوية وقيادية.
وهنا سيوضح الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله أن الأساس هو التربية على الهجرة والنصرة وأثرهما في صناعة دولة القرآن. فقد كانت الهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإليه انتقالا من مكان إلى مكان، وترك العشيرة والمال والماضي، والارتماء في المجهول. كل هذا هان لما اشتدت رابطة المسلم بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وبإخوانه. فهذه الهجرة قبل أن تطبق على أرض الواقع وُلِدَتْ وشبت في النفس، وطردت هواجس الخوف. إنه ميلاد مجتمع جديد وتضامن على أساس جديد، وتلاحم شديد، ينشد شعار مستقبل دعوة الله في الدنيا والفلاح في دار النعيم.
كما هو معروف في السيرة عندما نذكر الهجرة يقصد بها الهجرة من مكة إلى المدينة. لكن قبل هذه هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى غار حراء، فقبل أن يقود أمة كان لابد له صلى الله عليه وسلم أن يمر من مدرسة الشدائد، وأن يوصل قلبه الشريف بنور الوحي. حينئذ وُصِلت هنالك حلقة العروة الوثقى بين السماء والأرض. وهذه العروة كانت أولى الحلقات في سلسلة الأخوة التي تمسك بها الصحابة ولابد لأي مؤمن بعدهم أن يتمسك بها انتظاما في سلك الصحبة الرابطة برسول الله صلى الله عليه وسلم والجامعة لأمر الأمة والموحدة لهدفها وغايتها.
بعد هذا جاءت هجرة المؤمنين إلى الحبشة التي كانت تمرينا من تمارين مدرسة الشدائد قبل الهجرة النهائية، فلم تكن عسلا مصفى بل بابا من المعاناة ما كان يعرفه العرب، وهم من نعرف حنينا إلى الأوطان، ولصوقا بالربوع والديار، كما أن اللجوء إلى ملك لا يظلم عنده أحد درس حابل بالمعاني.
ثم جاء حدث الإسراء والمعراج فكان هجرة ثالثة أو خطوة ثالثة في مسار بناء دولة القرآن، فارق فيها الحبيب صلى الله عليه وسلم قلبا وقالبا جسدا وروحا هذا العالم الأرضي المادي، لتكون هذه الهجرة خطوة أخرى في طريق الانفصال عن المألوف والتعلق الروحي برب الأرواح.
ورغم بقاء المؤمنين في نطاق الأسرة والعشيرة، أدت التربية النبوية مهمتها في خلق إنسان جديد، بصمود جماعة المؤمنين وتماسكها وبرهنتها على أنها مجتمع متميز لا تنال منه المحن. هنا أصبح قيام دولة القرآن ممكنا بوجود حمَلة للدولة ودعائم لبنائها، فكان لابد من أرض تحتضن هذه الدولة لعدم التوازن والتكافؤ بين القوة الناشئة والجاهلية المسيطرة.
هنا وضح الإمام عبد السلام ياسين رحمة الله عليه أنه رغم هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف فردا لم يغنم فيها سوى العبد عداس النصراني، ورغم هجرة الصحابة إلى الحبشة جماعة ما كان العطف المحايد لتمكين الدعوة في الأرض ولا تأسيس دولة الإسلام في أرض لا تفتح ذراعيها لدين جديد.
فلم تلقَ الدعوة في التجربتين نصرة تكمِّلها، فإذا كانت الهجرة بذرة فالنصرة هي الأرض الخصبة لبذرها، وهذا ما لم تيسر إلا في الهجرة إلى يثرب. وهذه النصرة تلخص في قول الإمام البنا رحمه الله: “وإن ذلك المهاجر الذي كان يترك أهله، ويفارق أرضه في مكة، ويفر بدينه، كان يجد أمامه أبناء الإسلام من فتيان يثرب ينتظرون، وكلهم شوق وحنين إليه، وحب له، وسرور بمقدمه. ما كان لهم به سابق معرفة ولا قديم صلة، وما ربطهم به شيجة من صهر أو عمومة، ما دفعتهم إليه غاية أو منفعة. وإنما هي عقيدة الإسلام، جعلتهم يحنون إليه ويتصلون به، ويعدونه جزء من أنفسهم، وشقيقا لأرواحهم. وما هو إلا أن يصل المسجد حتى يلتف حوله الغُرُّ الميامين من الأوس والخزرج، كلهم يدعوه إلى بيته ويُوثره على نفسه، ويفديه بروحه وعياله، ويتشبث بمطلبه هذا حتى يؤول الأمر إلى الاقتراع. فقد روى الإمام البخاري ما معناه “ما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة” حتى خلد القرآن للأنصار ذلك أبد الدهر، فما زال يبدو غُرَّة مشرقة في جبين السنين”.
هنا يتضح جليا المعنى الواضح للمؤاخاة، رغم أن الأنصار علموا أنها عداوة العرب، وأنها الحرب لا مفر، وأنه الموت المحتم، اختاروا عن رضى طاعة الله ورسوله صلوات الله عليه مهما كانت النتائج، فالتزموا بالنفقة في العسر واليسر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحماية حامل الرسالة صلى الله عليه وسلم..
بعد هذا تجلى في الأفق المشع الإيثار الذي مدحه الله عز وجل في قوله وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (الحشر، 9). وهنا دروس أخرى وضحها الإمام رحمه الله؛ فلا يمكن تأسيس دولة القرآن على قواعد اقتصاد يكون فيها الإنسان عبدا لمصالح الأنانية، حيث إن المؤاخاة والإيثار الرائع لم يكونا زهرة عاطفية أينعت مع الجماعة بل كانتا بذلا يحتقر معه المؤمن متاع الدنيا بجانب حق الأخوة وجزاء الجنة.
وهنا الأسوة في هذا لغد الإسلام ودولة القرآن، مغزاه ومرماه أن تكون إعادة القسمة وإعلان عدل الإسلام ورخاء الإسلام القاعدة المادية لبناء دولة الإسلام؛ فقد كانت الهجرة والنصرة والمؤاخاة والإيثار تأسيسا للقاعدة الاقتصادية والرابط المتين بعد وضع دستور مفعل ينظم قواعد السلطان، ومسؤولياته، وأمور الأمن والخوف، وعلاقات المسلمين فيما بينهم، وعلاقتهم بأهل الذمة، وعلاقتهم بعدئذ بالعالم.
ونحن نعيش في ربوع الأوطان العربية أشد الشدائد المهولة التي تعتصر قلوب المؤمنين وتربيهم، لنا اليقين أن الله سبحانه وتعالى سيخرج لنا بمشيئته من هذه المحن رجالا من ذلك الطراز. رغم ما يبدو لنا أن بعض الشدائد قاتلة، لكن من ورائها دروس الشدة والرجولة إن شاء الله. ولعل فتك الجبابرة يوقظ ولو بعد حين غيرة هذه الأمة.