دندنة في جمال الروح

جلست كعادتي في شرفة البيت.. أستنشق عبق الربيع.. رائحة أشجار الليمون تلوح في الأفق.. أرشف قهوتي الساخنة.. أجتر مشاوير اليوم الطويل ومتاعبه، وأرتب مواعيد الغد الكثيرة.. لازلت غارقة في بحر الدنيا بهمومها التي تثقل كاهل الجبال.. أيقظني صوت جارتي تناديني من الشرفة المقابلة.. ملقية السلام بابتسامتها المشرقة التي تخرجك من عالم الشقاء والضوضاء، لتأخذك إلى عوالم الحب والصفاء.
جارتي ثلاثينية العمر، معروفة بين الأقارب والجارات بالمرح والحيوية، لا يكاد يخلو بيتها من الضيوف والزوار، امرأة عاملة مجدة مكافحة، لا تسمع لها صراخا ولا أنينا.. لا أذكر يوما أنها تأففت من الدنيا ومشاقها ونصبها..
صحوت من غفوة اليقظة على تحيتها الطيبة.. نسيت مواعيد الغد وتعب اليوم.. وسرحت إلى عالم آخر أطرح فيه سؤالا واحدا ووحيدا: “كيف تجعل جارتي حياتها سعيدة؟”.
استجمعت قواي المنهارة بالتعب، لبست عباءتي وشددت الرحال إلى بيت جارتي، لا بنية السؤال ومعرفة الحال، ولكن بنية التقصي وإيجاد جواب يشفي غليلي..
في طريقي إليها عصفت بذاكرتي نسمات من الماضي السحيق.. أثارت رمادا كان ساكنا بين ثنايا النسيان.. تذكرت صغري بين أحضان أمي.. نفس الابتسامة، نفس الهدوء، نفس الحيوية، ونفس النشاط..
كنت أتمنى أن أشبه أمي يوما في صبرها وجلدها رغم المشاق والعناء.. عشت طفولتي كاملة دون نقصان.. كانت أمي تتحمل الصدمات واحدة تلو الأخرى عوضا عني.. لم تقحمني يوما في مشاكل الأسرة.. و لم أحس يوما أن أبي رجل ناقص: أمي تكمله، أبي رجل شهم: أمي من تقويه، أبي رجل صابر: أمي من تسانده. أمي ولا كل النساء.. أمي فوق كل النساء.. شجرة شامخة تلحف بظلالها كل الأسرة من لهيب الحياة الحارق.. ويا ليتني أشبهها.
عدت من الزمن الجميل على نبرات صوت جارتي مرحبة بي، دخلت شاردة الذهن، متثاقلة الخطى.. هل ما أقدم عليه هو الصواب؟ لكن فضولي لم يكبحني لأواصل الخطى.. دخلت لأجد بيتها البسيط يشع نورا وجمالا.. جلست أرمق أركانه ركنا ركنا.. أبحث بعيناي عن سر الدفء المكنون في أرجاء المنزل.. بيتها كمروج خضراء.. تنبت بينها زهور صفراء وحمراء.. يلاعبها نسيم عليل يجعلني أركض وأركض كطفلة، فأرمي جسدي مستلقية على ظهري لأنظر إلى السماء وأشاهد السحب البيضاء بياض الثلج.. وأغمض عيني على سحر ذكريات الطفولة التي أغادرها كسرب حمام مهاجر يبحث عن الدفء، ثم تراني أعود إليها كطفل صغير يحبو بشوق لحضن أمه..
عدت لأستفيق من إطلالتي على نافذة الزمن على كلمات جارتي التي لم أعد أذكرها الآن.. ما زال السؤال يحيرني.. يقتلني.. يشتتني، تمتمت بهدوء بكليمات أسألها عن حالها وحال أسرتها، إجابتها المختصرة، الجميلة، الجامعة لكل معاني الثناء على الله: “الحمد لله حمدا كثيرا” استفزتني، أججت شرارة الفضول داخلي.
جارتي دائمة الحمد، لا أذكر يوما أنها اشتكت زوجها (كباقي النساء عندما نجتمع في المناسبات)، لا أذكر يوما أنها ندبت حالها.. لا أذكر يوما أني لمحت حزنها… وقبل أن أبحر في ذكريات طفولتي مع أمي.. استنهضت قواي وسألتها “كيف؟” سؤالي الناقص واللامفهوم تعجبت له ملامحها.. سؤالي كان نتاجا لأفكار تدور برأسي، تحرك لواعجي..
دهشتها الهادئة دفعتني لأن أستدرك الموقف وأجمع شتاتي لأكون جملة مفيدة وسؤالا مفهوما.
سألت وسألت ثم سألت حتى استنفذت كل حروف الهجاء.. هدأت من روعي بهدوئها المعتاد.. قدمت لي كأس شاي بالزنجبيل (الذي لا أحبه)، شربته.. شربته رغم أنني لا أحبه… ومن كان آنذاك يتذوق الطعام والشراب وهو لم يعد يتذوق طعم الحياة والحب والسعادة.
تبسمت جارتي ابتسامة مشرقة، أتبعتها تنهيدة عميقة.. في تلك اللحظة اختلطت المشاعر.. وتلاطمت.. وتصادمت.. اغرورقت عيناها.. وأضاءتا الغرفة بلمعانهما البراق.. في تلك اللحظة رفرفت عشرات علامات الاستفهام فوق رأسي.. وقبل أن أنبس ببنت شفة، نطقت.. تكلمت… وقالت كلاما لا يزال منقوشا بين ثنايا قلبي.
طفولتها لم تكن بالمثالية كما كنت أحسب، ترعرعت في جنبات شبه بيت.. مع براعم تخلى عنهم الوالدين والأحباب والأقارب.. كل المجتمع. تربت عصامية.. تطبب نفسها إذا مرضت، تربت على كتفها إذا حزنت، تطعم نفسها إذا جاعت.. وتعانق روحها إذا نجحت وفرحت.. عاشت وحيدة بعدما تركها أشباه أم وأب، تصارع أمواج الحياة الصعبة.. لا لشيء إلا أنهما لم يعودا يتحملان العيش مع بعضهما.. وكل واحد سلك طريقه مع شريك آخر بعيدا عن طفلة تثقل كاهلهما.
أذكر حين كنت طفلة، في أيام الزمن الجميل، كان أكبر همي هو كيف أحل تماريني المدرسية، وكيف أختار لون ربطات شعري، وكيف أسرحه… كيف أصالح صديقتي المقربة.. كانت هموم جارتي أكبر من هذه الطفوليات.. ترعرعت وسط مثيلاتها يكابدن نفس المعاناة، يكتمن أنينا عميقا وصراخا مدويا كلما اقترب العيد.. أو في أول يوم دراسي، أو خلال حفل نهاية السنة..
انهمرت دمعة جارتي.. واسترسلت في حكيها: علاقة والديها لم تتوفر فيها أدنى شروط المودة والرحمة.. إثنان التقيا أول وهلة لإشباع غرائز جسدية، كانت جارتي نتيجتها، وغابت بينهما كل معاني الحب والود والاحترام.. غابت صلتهما برب الخلق، فالإثنان لا يعرفان للمسجد طريقا.
كيف لعلاقة يربطها ميثاق غليظ ومقدس أن تسمو وتثمر ثمارا تنفع الأمة جمعاء وهي بعيدة بسنوات ضوئية عن طريق الله وعن ذكره؟ شتان بين زواج تسقيه إيمانا بالله وصبرا ينبت نخلا سامقا، وبين زواج تسقيه مجونا وفسوقا يعطي زقوما وحنضلا.
دموع جارتي أحرقتني وتمنيت لو انصهرت قبل أن أفتح فاهي وأتسبب في فتح باب الماضي الكليم.
كل هذا لم يزدها سوى قوة وصلابة.. فما عاشته لا يجب أن يتكرر، وعزمت أن تختار زوجا صالحا ومصلحا واستعانت على ذلك بالدعاء الصادق لرب العالمين.. تزوجت واختارت الآية شعارا لها: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون؛ زوجها هو سندها كلما جزعت.. كلما حزنت أو حتى ثارت.. تدرك جيدا أنها في كنف زوج يحمل هم دعوة الله في قلبه (لا ينفك بيتها يخلو من مجالس حفظ كتاب الله وكذلك مجالس الذكر)، كما أن زوجها يوقن جيدا أنه في حضن امرأة مؤمنة محبة صابرة محتسبة.
لا يوجد إنسان يخلو من ضغوطات الحياة ومشاكلها، فنحن نعيش على أرض أعدت للبلاء ولم يسلم منها حتى الأنبياء، واللبيب هو من يعبد طريق سعادته بالدين، يقول الله تعالى في كتابه العزيز فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا (طه، 123 – 124).
وضعت كأس الشاي بالزنجبيل وهممت بالعودة إلى بيت، أيقنت أن سعادة جارتي سببها جلدها واحتسابها، وأن بيتها لم تجمله نباتات وورود مصففة في الشرفة، بل هي آيات تتلى آناء الليل وأطراف النهار من قلبين ذاكريين اجتمعا عليه.
أسرعت الخطى إلى بيتي وكلي عزم وهمة في تزيينه وتنميقه، فقد عرفت السر اليوم.. سأزينه بثريا القرآن، وأضع في أركانه شجيرات تفوح بعبق ذكر الرحمان.. وسأفرشه أخلاقا وعدلا وإحسانا.. جزمت حقا أن سعادتي أنا من أنسجها، أنا من أحيكها… وجزمت صدقا أنني صرت أحب الشاي بالزنجبيل.