خولة جرجرة

ناسكة أخرى.. عابدة.. محدثة.. حافظة.. صفات نعتز بها كل الاعتزاز، وهي تاج فوق رؤوسنا، وهي أصل البذور الطيبة. ولكن حجبت عنا حقائق كثيرة عن تاريخ المرأة الشامل حين سيقت في سياق غير سياقها بخست المرأة حقها في المصنفات والكتب والتراجم، حتى أصبحت أصناما لصيقة بالمرأة، تعبد وتقدس.
والأسوأ من ذلك عندما تقرأ مثل هذه العبارة: “وغيرهم من الأتباع من الخدم والنساء والصبيان الذين لم يبلغوا الحلم…”، ليتمم صاحبنا عدد من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيعة الرضوان، وكأن المرأة لا تصلح أن تكون إلا وسط هذه السلسلة من الخدم والصبيان.
أسأل الله الهدى والرشاد وأن يهيئ لي من أمري رشدا، ويجنبني الزلل.
وكأن التاريخ لم يسجل عن المرأة إلا هذا الجانب من حياتها، أو كأن الذين يكتبون عن المرأة يرسلون لها رسالة بين السطور؛ أن هذه دنياك فلا تتعديها مهما كان من أمر أمتك، إن صليت وصمت وتنسكت فهذا يكفيك.
وصرخة في داخلي أكبتها كتابا بعد كتاب، وقراءة بعد قراءة لعلي أجد من يرفع هذا الضيق، وضيق الأفق شيء آخر غير التقوى.
وحتى نرفع هذا الضيق، تعالوا معي نتنسم سويا نسمات الهمم العالية وسط جبال شامخة في قلب الجزائر، ونعيش لحظات مع نموذج آخر عالي الهمة قوي الإرادة، سهم نافذ لا يعرف إلا هدفه؛ جوهرة الجزائر، ولبؤة جبال جرجرة.
أروع وأجل ما يمكن أن يعتز به تاريخ الكفاح والبطولة والتضحية للا فاطمة نسومر؛ ولدت في ورجة سنة 1830م، تربت في أسرة متدينة، أبوها محمد بن عيسى مقدم الزاوية الرحمانية، وأمها للا خديجة التي تسمى بها جبال جرجرة بالجزائر.
لما توفي أبوها أحست الغزالة المتمردة بالوحدة والغربة ووحشة الانعزال فرحلت إلى حيث يقيم أخوها الأكبر، إلى قرية سومر، وإليها نسبت للا فاطمة.
عرفت بالأدب والتصوف والذكاء الخارق، قائدة محنكة في إدارة المعارك ضد جنرالات وضباط جيوش فرنسا.
آثرت حياة التنسك والانقطاع والتفرغ والعبادة حتى ذاع صيتها في جميع أنحاء القبائل، هكذا كانت، ولكن… وأي لكن… لما انتهكت حرمة الوطن، وداس الطغاة ترابه، خرجت اللبؤة من عرينها لتعلم الغاصب والمعتدي أن الجهاد وقيادة التغيير والمقاومة ليست حكرا على الرجل فقط، وأن الأسود من غير اعتمادها على الإناث لا تستطيع وحدها تربية الأشبال، فاللبؤة هي دائما من تصطاد.
هذه سنة الكون، والسلوكيات البشرية تماثل السلوك الكوني، وهذا ما يظهره التاريخ الإنساني جليا، ومن حركة الحياة وصفات الخلق وموازين القدر نتعلم.
خرجت لبؤة جبال جرجرة لتقود المعارك مرة تحت قيادة الأسود ومرة – بل مرات – تقود هي الأسود، وأذاقت العدو مرارة الهزيمة وأرغمت أنوف كبار جنرالاته في التراب.
ولولا الغدر وخيانة العدو الفرنسي للعهود والمواثيق لما استطاعت سياسة التفرعن أن تكبلها أسيرة وتضرب عليها الحصار مع وفد من قريناتها اللواتي اخترن أن يفاوضن الجنرالات لضمان سلامة الوطن.
وتبعدها خفافيش الظلام عن جبال جرجرة مع ثلاثين شخصا من الرجال والنساء إلى زاوية بني سليمان بتابلاط، حيث بقيت تعاني المرض والشلل لمدة سبع سنوات إلى أن وافتها المنية عن عمر يناهز 33 سنة.
ماذا عسى أن أقول؟ سوى أن أعزي نفسي بقول الشاعر
أتكلفون الأسد غير طباعها ** وتروضون جماحها لتلينا؟
عيني ترى شبح الحِمام ولا ترى***حرا أبي النفس بات مهينا
لن نرضى يا لبؤة جبال العز والإباء بذلة أو عيش مهين.
ها هي ذي “خولة جرجرة”، هكذا كانت تحب، وهكذا أحببت أن ألقبها، تنادي من وراء جدر التاريخ التي صنعها الفقه المنحبس ليضيق عنا رؤية الأفق، تنادي خولة جرجرة لتعلم وليعلم كل من لا يعرف حقيقة الخلق أن المحراب يعلم صاحبه الفروسية، فروسية الميدان، وإن لم يعلمه ذلك فرهبنته ادعاء.
“فرسان بالليل رهبان بالنهار”، قاعدة إليك أخي كما هي لك أختي… “المومنون والمومنات بعضهم أولياء بعض” (والحرب واحدة، ومعارك ومواقع وثغور… والمرأة المسلمة مستهدفة والرجل).
– لما أحست فاطمة أن وطنها في خطر، خرجت من نسكها وعبادتها لتمارس القيادة العسكرية المحنكة، والفائقة الدقة والتخطيط. بحيث شاركت إلى جانب المقاوم بوبغلة في يوليوز 1854م في معركة ضد المستعمر الفرنسي لتذيقه الهزيمة بقتل أكثر من 800 قتيل منهم 25 ضابطا و371 جريح. ورغم أنها كانت مؤمنة بسير أبيها التربوي بل وريثته في تدريس العلم للطلاب، لكنها خرجت عن المألوف حين شاركت الرجال قيادة المعارك، فهي بهذا منظرة بفقه جديد. خرجت من فقه التقليد المنحبس إلى فقه التجديد الممارس للحياة من جميع جوانبها.
– في إحدى معاركها، فضلت الانسحاب إلى أن تعاود الكرة حين تكون قد أحسنت العدة والقوة. فانطلقت تجند طلاب الزوايا ونساء القبائل، بهذا قد ساهمت في التغيير؛ تغيير إسلام موروث كان حبيس الزوايا والحسبلة والحوقلة ليصبح قرآنا يمشي على الأرض، ونقف هنا وقفة لنتأمل “داخل البرج وخارجه رجل وامرأة لا تنتظر منهما حماية للموقع ولا بطولة في الجهاد ما لم يتحرر الرجل والمرأة من النظرة الدونية التقليدية التي كانت تحيل المرأة إلى عضو مكفول مهمش وتقنعه باعتبار نفسها كذلك، تتحايل للدفاع عن وجودها بحيل الضعفاء وكيد المضطهدين” (عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، ص 145).
– ولما أحست أن كفتها غير راجحة في معركتها الأخيرة مع المارشال روندون سنة 1857م، ولما نهج الغادر الجبار أسلوب الإبادة بقتل كل أفراد العائلات بلا تمييز ولا شفقة، اختارت، بل فضلت أن لا تخاطر أو تغامر بل أن تفاوض وتحاور، وهذه صفات القائد الذي يجمع بين الرحمة القلبية والحكمة العقلية. كذلك أنت أيتها الحبيبة فلا تكوني أرزة فتكسري بل كوني مثل ملأى السنابل تنحني تواضعا لتسهل الحياة لغيرها.
– أثر عنها أنها كانت ترفض الزواج فلما أرغمها أخوها عليه تحايلت على زوجها بالمرض ليسرحها وكان لها ذلك. مع العلم أنها كانت ساحرة الجمال، هذا حقها، وكامل اختيارها، مارسته من غير تحرج رغم العادات والتقاليد والأعراف التي كانت تحكم القبائل آنذاك. وأنا هنا لا أدعو أو أشجع على الرهبانية، بل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير وأكمل، ولكني أرى الأمر من زاوية أخرى، تلك التي ترى أن الزواج هو منتهى السعادة الدنيوية، فلما لم يتحقق لها منه نصيب تراها قد سربلت نفسها بشتى العقد النفسية، منزوية عن الحياة، ناظرة إلى نفسها نظرة دونية، وكأن الكون عند عدم الزواج قد توقف عن الدوران. ليس ذاك أختي هو المبتغى، انظري إلى قضاء الله من زاوية القدر الذي هو خير، لا من زاوية المقدور الذي هو شر.
– هكذا كانت فاطمة؛ لم تكن حبيسة بيت الجهل والاستقالة من الحياة بل كانت نموذجا عاليا مناقضا تمام المناقضة للمرأة “الحرمة”.
– وأخيرا تعالوا معي أحبتي نودع للا فاطمة نسومر بصوت التحدي؛ تحدي الاستبداد الجاثم على الصدور، لكي لا نعطل الأسباب ونكذب على ناموس الله في الكون والتاريخ، ونتعلم منها كيف نصنع الحياة.
ذقت من بحر حبها، فما كان مني إلا أن أبحرت وإياكم في بحر جودها وعطائها، كما تبحر الباخرة العملاقة؛ “فاطمة نسومر” ناقلة الغاز الجزائري إلى اليابان والتي سميت باسمها تخليدا لذكراها، وها هو ذا اسمك حبيبتي يبحر في العالم يوسع العلم والفهم ويصحح الأغلاط مع نساء صدقن، بصبر وجلد وتحمل وطول نفس ورفق مع ذلك لا عنف، حبا فيك وتصديقا بالوعد يا خولة جبال جرجرة.
سلام عليك… هل وجدت ما وعدك ربك حقا؟؟
إن شاء الله نراك رأي العين؛ أنت وخولة بنت الأزور وإخوان وأخوات الآخرة على سرر متقابلين.