القيم والأخلاق بين نداء الفطرة وطغيان المادة

نداء الفطرة استجابة لرسالة الوحي
الإسلام بما هو نظام شامل ينظم علاقة الإنسان بربه وعلاقته بأخيه الإنسان وبمحيطه الكوني من مخلوقات الله تعالى، فهو بذلك فلسفة حياة لا يعيش فيها الإنسان فردانيته وحريته الفردية كأسمى مقدساته كما عند الغرب، يقول الإمام عبد السلام ياسين في كتاب سنة الله: نستضيء بضوء القرآن يكشف لنا آدمية الإنسان، وتركيبه من الصورة المادية والمعنى، من الجسم الفاني والروح الخالدة، من العقل الخادم والقلب السيد، موطن الداء ومقر السناء (ص 46).
وهذه النقطة هي مرتكز الاختلاف بين الإسلام الذي يجعل من الفرد حلقة في منظومة ربانية وبين الغرب الذي يقدس الفرد، ومن هنا يأخذ المسجد، الذي ينظم علاقة العبد بربه والأسرة الحافظة للفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها ومجتمع العمران الأخوي حيث يعيش الإنسان مع أخيه الإنسان وفق سنن ربانية تنظم العلاقة فيما بينهم، مكانته في تحقيق الغاية من الخلق؛ عبادة الله واستخلاف في الأرض وإعمارها، وبذلك تلبي الإنسانية حاجاتها الملحة إلى معرفة الله وأمنها الروحي، وإلى ناموس الزوجية الذي يحكم الكون والتعارف والتعاون كخليفة لله في أرضه.
وهذا الاستخلاف لا يحصل إلا بإعمار الأرض وروح المسجد تسري في جميع أوصال الحياة قاطعة الطريق على حضارة السوق ومنطقه المبني على المسَلَّمة الدوابية التي تجعل من الفرد وغرائزه وهواه غاية وجوده على وجه هذه الأرض وعليها مداره.
من هنا فالقيم والأخلاق الإسلامية هي أكبر من مجرد قيم ثقافية، ولب الهوية الحضارية عمران أخوي يربط بين عمارة الأرض والمسجد، وبهذا المفهوم فالدين ليس مجرد عبادة تربط العبد بربه بل هو عبادة ومعاملة وأخلاق وقيم، ولا دين بدون قيم وأخلاق.
طغيان المادة تحت ضغط العولمة
أريد للعولمة أن تكون مدا عالميا يغزو كل البقاع في محاولة حثيثة لتنميط قيم العالم وفق النموذج الغربي الذي يتغنى بالعقل كمصدر وحيد للمعرفة ويسمو فيه الفرد ومصلحته ومتعته على باقي الروابط، محددة بذلك قيما مادية محضة لا تعترف بالحاجيات الإنسانية الأخرى، ودون مراعاة للمرجعية القيمية التي تمتح منها كل حضارة.
ويعد ذلك بالنسبة للمجتمعات الإسلامية ضرب في الصميم لقيمها وأخلاقها وفق سياسة مدروسة لسلخها عن هويتها، والعمل على انهزامها حضاريا أمام نموذج مسنود برساميل هائلة وقوة اقتصادية، وترسانة فكرية وفنية جبارة غارقة في الدوابية، وآلة إعلامية رهيبة ورموز ملمعة، وإن اقتضى الحال قوة عسكرية ماحقة. مما يجعل هذه الشعوب في حالة استلاب حضاري وهزيمة نفسية من نتائجها تبني نحلة الغالب وضمور مدها القيمي الأخلاقي الأصيل، فاسحا المجال لقيم غير نابعة من هويتها، مدمرة لمصادر قوتها ومحققة لتبعية مطلقة للغرب.
ويمكن رصد هذا التأثير على قيم وأخلاق المجتمعات الإسلامية في أبعادها الثلاثة التي تكلمنا عنها آنفا حيث نلاحظ:
– التأثير على بعد الروح المسجدية: إفساح المجال للفراغ الروحي وعزل الدين عن الفضاء العام، وحصره في تدين فردي لا يتجاوز دور العبادة في علاقة العبد بربه، وغياب لذكر الغيب وما يوصل لله.
– التأثير على بعد الحفاظ على الفطرة السليمة: ضرب للأسرة كحافظة للفطرة السليمة، وضرورة لتنشئة الطفل في لبنة تتوزع فيها الأدوار وتتكامل بما يحقق هذه الغاية وما يستتبعها من ضرورة الاستقرار، حيث نجد الأمر معكوسا في ظل العولمة؛ فقيمة الفرد تعلو على قيمة الروابط الأسرية، وما ينتج عن ذلك من ضياع للأجيال وخروج للمرأة عن فطرتها وتماثل للأدوار عوض تكاملها وصولا إلى الإباحية والمثلية في العلاقات…
– التأثير على بعد بناء مجتمع العمران الأخوي: غلبة ثقافة السوق وأخلاقه من تنافسية حادة واستهلاك تكاثري ودوابية غارقة في المادية ولا تعترف إلا بالمتعة الحسية، وعالم موار تزيده وسائل التواصل وسرعتها إلهاء وقطعا للروابط الاجتماعية وانتشارا للعنف وصدا عن الله…
الضوابط المحددة لفعل مجتمعي بان في مجال القيم والأخلاق
نحن إذا أمام منظومتين مختلفتين من حيث القيم والأخلاق التي تدعو إليها كل منهما؛ منظومة بروح مسجدية تستجيب لنداء الفطرة وتحقق كينونتها بلبنة الأسرة الأساسية في سلامتها وتعمر الأرض، ومنظومة جاهلية أجمل الأستاذ عبد السلام ياسين تجلياتها في أربع سمات: ظن الجاهلية، حمية الجاهلية، حكم الجاهلية وتبرج الجاهلية، حيث يقول في كتاب حوار الماضي والمستقبل ص 229: “حمية الجاهلية هي اتباع الهوى في مظهره الغضبي، كما هو ظن الجاهلية اتباع للهوى في مسالكه النفسية العقلية، وكما هو حكم الجاهلية اتباع الهوى في تكاثريته الاقتصادية وتفاخريته السياسية، وكما هو تبرج الجاهلية اتباع للهوى في غرائزه اللذاتية… أربع سمات للجاهلية تركت بصماتها على المجتمع الغثائي الموروث، وهي آخذة في بصم المجتمع المختلط الممزق بين يمين ويسار، وحداثة وأصالة، وتخلف مستضعف في قاعدة المجتمع من فوقه مجتمع مترف. وسم موروث على وسم جديد. خدوش جاهلية على خدوش. لا ينقد كل ذلك إلا توبة وحكم شورى وعدل شريعة وإحسان أخوة. فينا من الجاهلية بمقدار ما فينا من سماتها الأربع”.
وانطلاقا من هذا المنظور فالاشتغال على مجال القيم والأخلاق تحكمه مجموعة من الاعتبارات لتصريفه كفعل مجتمعي من حيث كون أصل البلاء هو الفساد والاستبداد الذي يقف حائلا بين الناس ودعوة الله، حتى لا نسقط في التجزيء المبني على التوصيف الخاطئ للواقع. وأن مدار الأمر على التربية بمفهومها الواسع عبادة وأخلاقا، وأن مفهوم الفتنة هو الوصف النبوي للمجتمع ولا يخرجه عن الإسلام. وهذا ما يجنبنا إحداث استقطابات داخل المجتمع، وعليه فالأسلوب النبوي المتبع هو التدرج والرفق والدعوة بالتي هي أحسن دون عنف مادي أو لفظي في إطار تدافع مجتمعي.